فيلادلفيا نيوز نجعل الخبر مبتدأ
فيلادلفيا نيوز
الدكتور محمد رسول الطراونة
حطت بي الرحال مؤخراً في الدوحة للمشاركة في المؤتمر الدولي السادس للرعاية الصحية ، بدعوة كريمة من سعادة الدكتوره مريم عبدالملك ، مدير عام الرعاية الصحية الاولية في قطر، وهذا ليس بغريب على أهل قطر حيث وجد الوفد الاردني ترحاباً وحفاوة استقبال منذ أن حطت أقدامه أرض الدوحة ، فلطالما شكلت قطر والأردن نموذجاً للعلاقات الأخوية المتينة، التي تجسدها أواصر القربى والمصاهرة والثقافة المشتركة، وتُترجم على أرض الواقع من خلال تعاون طبي مستمر وتبادل للخبرات في مختلف المجالات الصحية.
كعادته، لم يخِب المؤتمر ظني، بل قدّم منصةً استثنائيةً لتبادل الخبرات واستشراف مستقبل الرعاية الصحية التي تضع الإنسان في مركز اهتمامها. “الرعاية الصحية الأولية هي قلب النظام الصحي النابض، وليست مجرد بوابة للدخول إليه.” هذه الحكمة تجسّدت أمامي بشكلٍ ملموس خلال جلسات المؤتمر وزياراته الميدانية.
جمع المؤتمر نخبة من الخبراء العالميين وصناع القرار، وناقش مواضيع بالغة الأهمية مثل التحول الرقمي في الرعاية الأولية، ودمج الصحة النفسية في الرعاية الأساسية، والنماذج المتكاملة التي تركز على المريض وتواكب احتياجات المجتمعات العصرية. أما زيارة مركز صحي المعيذر في الدوحة على هامش المؤتمر ، فقد كانت محطةً مثيرة للإعجاب، حيث شاهدت عن قُرب كيف يمكن تحويل الرعاية الصحية الأولية إلى تجربة إنسانية استثنائية. فالمركز لا يقدّم الخدمات العلاجية التقليدية فحسب، بل يتعدّاها إلى: عيادات متخصصة مجتمعية للصحة النفسية ودعم مرضى السكري والربو و خدمات صحية مدرسية متكاملة تركز على الوقاية والتوعية، برامج صحة المسنين التي توفر رعاية شاملة لكبار السن، نظام السجلات الصحية الإلكترونية المتكامل الذي يربط جميع الخدمات. عيادات التغذية والرياضة التي تدمج أنماط الحياة الصحية في الرعاية الطبية وعيادة المدرب الصحي وتقدم هذه العيادات مجموعة واسعة من التدخلات المناسبة لمعالجة السمنة او زيادة الوزن وقلة النشاط البدني وعادات الاكل غير الصحية والتدخين ، و بينما كنت أتجول في أروقة مركز صحي المعيذر ، لم أستطع إلا أن أفكر في مركز صحي راس العين – أو كما يُسمى مركز صحي الأميرة بسمة الشامل في عمان – الذي يمثل إرثاً طبياً عريقاً وشاهداً على تطور الرعاية الصحية في الأردن، حيث حظي المركز مؤخراً بتطوير من قبل مبادرة “صحتنا همتنا” وبمتابعة مكتب سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله، مما يؤهلّه لأن يكون شريكاً مثالياً في مشروع توأمة طموح، وقد خطر ببالي فكرة توأمة بين مركز صحي المعيذر في الدوحة ومركز صحي راس العين في عمان، يمكن أن يشمل:تبادل الخبرات بين الكوادر في المركزين، برامج تدريبية مشتركة في مجالات الرعاية المتكاملة ، تطوير نظام معلوماتي متكامل على غرار النظام المطبق في مركز المعيذر، تبادل الزيارات للاطلاع على أفضل الممارسات. ولعلها مناسبة أن أتوجه بتحية إعجاب وتقدير للقيادة الصحية في قطر، وعلى رأسها سعادة الدكتورة مريم عبد الملك، ، التي تقف خلف هذه النقلة النوعية في الرعاية الصحية الأولية ، كما أتوجه بالتحية لكل العاملين في مركز صحي المعيذر الذين شاهدتهم يقدمون خدماتهم بحرفية وإنسانية نادرة.
إن العلاقات الأردنية القطرية المتينة تشكل أساساً متيناً لتعاون طبي أوسع، والتوأمة بين المعيذر وراس العين يمكن أن تكون نواة لشراكة استراتيجية في مجال الرعاية الصحية الأولية، تثري مسيرة البلدين الشقيقين نحو تحقيق أعلى معايير الرعاية الصحية لشعبيهما، مستلهمين في ذلك القيم والعادات والتقاليد المشتركة، والرؤى المتقاربة لقيادتينا الرشيدتين ، فكما تربطنا أواصر القربى والمصاهرة والثقافة ، يجمعنا أيضاً السعي المشترك نحو توفير رعاية صحية متكاملة تجعل من الصحة حقاً لكل مواطن، واستثماراً في مستقبل أجيالنا القادمة.
ما شاهدته في قطر يؤكد أن الرعاية الصحية الأولية ليست رفاهية، بل هي استثمار حكيم في رأس المال البشري، وقاطرة التنمية المستدامة. النموذج القطري يثبت أن بالإمكان تحويل المراكز الصحية من أماكن للعلاج التقليدي إلى مجمعات صحية مجتمعية تقدم خدمات متكاملة تلبي احتياجات المجتمع بجودة وكفاءة.
خلاصة القول ، الرعاية الصحية الأولية المتطورة هي التي تنتقل من نموذج “انتظار المرض” إلى نموذج “تعزيز الصحة”، ومن ثقافة “العلاج” إلى ثقافة “الوقاية”، النموذج القطري في مركز صحي المعيذر يمثل مصدر إلهام للدول العربية، ويشكل دليلاً عملياً على إمكانية تحقيق طفرة حقيقية في جودة الخدمات الصحية المقدمة للمواطن. إن تطوير مركز صحي راس العين، واستلهام تجربة مركز المعيذر، يمكن أن يشكل نقطة انطلاق لتحول شامل في الرعاية الصحية الأولية في الأردن، نحو نموذج أكثر إنسانية، وأكثر تكاملاً، وأقدر على مواجهة التحديات الصحية المستقبلية.
أمين عام المجلس الصحي العالي السابق
