فيلادلفيا نيوز
المحامية جمانة الطراونة
تعتبر السينما مرآة عاكسة للواقع الاجتماعي الذي نعيشه، وبصفتها أداة فعّالة من أدوات الثقافة والمعرفة والتنوير، فقد أدّت دورها كوسيلة للتوجيه والإرشاد في إعادة تشكيل قيم المجتمع، وعاداته في مواقع متعددة، إذ سلّطت الكثير من الأعمال الفنية والدرامية الضوء على قضايا اجتماعية، منها: العنف ضد المرأة وجرائم الشرف وتولّت الدفاع عن أسمى حق من حقوق الإنسان، وهو الحق بالحياة الذي كفلته الشرائع السماوية، والدساتير العالمية قال تعالى:-” ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلّا بالحق”.
جاء في الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي المادة (6) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية “بأن الحق في الحياة حق ملازم لكل إنسان وإن القانون يحمي هذا الحق “، وورد في تقرير نُشر عام 2006 على موقع صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة “بأن العنف ضد النساء والفتيات مشكلة ذات أبعاد جائحة، فقد تعرّضت امرأة واحدة للعنف من كل ثلاث نساء في جميع أنحاء العالم”.
لم تكن السينما العمانية بمعزل عن مناقشة القضايا التي تخص المرأة، فقد أطلق الكاتب والمخرج “سليمان الخليلي “بواسطة الفلم الروائي القصير ” رماد” عمله الفني الذي كان من انتاج “الجمعية العُمانية للسينما” عام 2023 وبطولة: يوسف البلوشي، وعلي العامري، وميمونة المعمرية، والأبرار الحبسية، وهيثم المعولي، واليقظان البلوشي، وزايد الجابري، ودليلة الدرعي، وليلى أولاد ثاني، وسعيد الوهيبي، وتهاني المعولي، فترجمه الى صوت وصورة عن قصة مستوحاة من وقائع حقيقية صرخة في وجه المجتمع لإيقاف العنف ضد المرأة ” فجاء الخطاب الفلمي في فلم “رماد” ترجمة للخطاب الديني والخطابين الإنساني والقانوني.
تتلخّص أحداث الفلم في عائلة بسيطة مكونة من أب وأم وابن وابنة، تمرض الابنة فيصطحبونها للطبيب، وفي غرفة الانتظار يحصل تشابه بالأسماء بين الابنة ومريضة أخرى كلاهما تحمل اسم “فاطمة سالم”، يحدث لبس جرّاء هذا التشابه ويتم تبديل نتائج التحليل بالخطأ، وعندما يذهب الابن لاستلام نتيجة تحليل شقيقته يتفاجأ بنتيجة الفحص أنها حامل، فتثور ثائرته ويبدأ التصعيد .
اختار المخرج اسم ” رماد” ليكون عنوانا للفلم يشكّل العتبة الأولى التي ينطلق منها وهو اسم ذو حمولة دلالية استخدم به المخرج أسلوب التنكير لا التعريف، وحسب علم الدلالة على المعاني، فإن ذلك يفيد الإطلاق والعمومية وبذلك يحقق العنوان متطلباته كخطاب عام يحيل على موضوعه ويخدم معناه، فالمشكلة لا تخصّ فئة معينة أو مجموعة محددة من النساء بل يخصُّ كل امرأة تتعرّض للعنف، ويوجّه رسالته لكل مجتمع يهمّش المرأة، ولا يقر بحقوقها والمراد منه ايصال الرسالة التي يريد المخرج أن يطلقها من السينما.
لماذا “رماد”؟!
للرماد دلالات متعددة تنصبّ لتعطي معانيَ كثيرة منها أن الأسم يحيل إلى الضعف وعدم التماسك، فهو مادة ناتجة عن احتراق النار حتى تصبح هشّة، ومن السهل أن تذروها الرياح، ومن دلالاتها اشارتها إلى الموقف الضبابي، أو الرؤية غير الواضحة أو الحقيقة غير المكتملة ،ويرتبط الاسم بالظلم، والاكتئاب، والحزن والخسارة، والوحدة، والسلبية، والانهزامية وكل هذه الدلالات تحيل الى موضوع الفلم الذي سار جنبا الى جنب مع معالجة المخرج للأحداث فمن الناحية الفنية ركز المخرج على الجانب البصري المشهدي كنص موازٍ تغلب على الجانب السردي محاولة منه لتكثيف الصورة، وخلق إثارة لإشراك المتلقي في صناعة السرد الخاص به ليصبح شريكا في الحدث بدلا من دور المتفرج او المتلقي، وقد ساعد الممثلون في ذلك من خلال إجادة أدوارهم باستخدام لغة الجسد والايماءات، والايحاءات والالتفاتات البصرية والحسية والحركية، فعلى سبيل المثال لا الحصر مشهد شبك الأب لأصابع يديه بقوة دليل على الإصرار والعزم على إتخاذ قراره الناتج عن ثورة غضب مشهد مرور (فاطمة) على طيور الحب قبل خروجها وتمرير يدها على قفص الطيور كفيل بأن يعرفنا على شخصيتها بأنها فتاة رقيقة محبة هادئة حالمة لطيفة، ومشهد وقوفها تراقب الأحداث من شباك قضبانه تشبه قضبان السجن دلالة على أنها سجينة العادات والتقاليد وانها لا تملك الحرية لتعبر عن ذاتها، ولا تملك زمام أمورها، وكان من ضمن المشاهد مشهد لشاب يحمل كاميرا يوثّق الأحداث بتصويرها والتركيز على مواطن الجمال من حوله والذي جاء على هيئة المنقذ بنهاية الفلم، فيؤوّل على أنه الفن الذي تمثل بمخرج العمل الذي وضع التصور لكل هذه المشاهد ووثّقها وأخرجها للعالم ليكون المنقذ الذي يسلّط الضوء على موضوع إنساني بحت ليقول لنا أن هذا الدور هو دور السينما في توجيه الكاميرا كسلاح فعال لمحاربة الظلم والقهر والعنف وإظهار مواطن الجمال برغم كل السوداوية التي تحيطنا من كل جانب.
قام المخرج بتوظيف الموسيقى لتصبح بمثابة أداة تعبيرية موازية تعزّز الجانب البصري المشهدي، وكأداة سرد تسير جنبا إلى جنب مع الحالة المزاجية، والنفسية، والعاطفية للشخصية التي تقود المشاهد إلى تركيز الانتباه على المواقف والأحداث، أذ إنها تعكس احساس ومشاعر الشخصية، وهنا أظهر المخرج براعته في اختيار الموسيقى المناسبة، وتوظيفها لخدمة الحدث، إمّا بتهدئته، أو رفع وتيرة التوتر، أو لفت الانتباه لدفع حركة الفلم الدرامية إلى الأمام.
تنوّعت الفضاءات مابين داخلية، وخارجية، نهارية، وليلية، حسب ما يخدم المشهد، فقد كانت الإضاءة التي تم استخدامها في المشاهد الليلة بمثابة أدوات تعبيرية لتعزيز المشاهد البصرية، ففي مشهد توجّه الطبيب للبحث عن منزل أهل فاطمة حتى يوضح لهم حقيقة الأمر، كان مشهدا ليلياً، وكان ضوء مركبته خافتا، فلم يتمكن من تبديد الظلام، إذ جاء على شكل بقعة ضوء صغيرة بالنسبة لمساحة الظلام التي كانت تملأ الكادر” فبقعة الضوء الخافت كانت تمثل الحقيقة ،كلمة الحق ،العدل وهي حقيقة باهتة خافتة أما الظلام الدامس فكان يمثل الظلم والسطوة والتجبر والقسوة وقد احتل اغلب المساحة للإشارة إلى أن الظلم هو السائد والغلبة له، فكانت الحقيقة تشق طريقها بصعوبة
أحسن المخرج باستخدام آلية “النسق الدائري” إذ انطلق المشهد الأول من نقطة نهاية أحداث الفلم في مشهد حفر الأخ في الأرض للإشارة إلى أهمية القضية المطروحة التي يتناولها الفلم وإنه يجب أن تؤخذ على محمل الجد لخطورتها، وكأنه يقول إن لم نجد حلّا للقضية سنعود إلى نقطة البداية وسندور في دائرة مغلقة تعيدنا إلى حيث ابتدأنا.
وعن سياقات الصورة الفلمية من حيث الشكل، قام المخرج بترتيب المشاهد والربط بينهما من خلال أدوات متعدّدة مثل موضع الكاميرا ورمزية الألوان ونوعية الإنارة واستخدام الأضواء التى ومن حيث المعنى سهلت علينا استخراج المضامين الدلالية والرمزية للمشاهد متكئا على قواعد التكوين السينمائي باستخدام تقنيات متعددة حسب ما يخدم المشهد، ففي المشاهد مثل “مشهد والدة فاطمة وهي تمشطها”و “مشهد الابن وهو يحفر في الأرض”، و”مشهد فاطمة ووالدتها داخل المركبة التي اقلتهم” “المشهد الأخير لفاطمة والشاب الذي انقذها ” استخدم المخرج تقنية الثلاثيات بتقسيم الكادر الى تسع مربعات متساوية بتقاطع خطين عمودين مع خطين افقيين فتركزت المشاهد ضمن أربعة نقاط داخل الكادر مما حقق الهدف منها وهي خلق التوازن وتركيز الانتباه بوضع العناصر المهمة في اللقطة عند نقاط التقاطع.
وفي مشهد الشاب عندما كان يراقب والد فاطمة ومشهد والدة فاطمة وهي تجلس على سرير ابنتها بعد أن غادرت، قام المخرج بموازنة العناصر حيث جعل مشهد الشاب المصوّر ووالدة فاطمة كعنصر رئيسي في اللقطة بعيدا عن المنتصف، وقام بملء المنطقة الفارغة بموضوع أقل أهمية.
أمّا في مشهد تعديل فاطمة لوضعية البندقية قبل خروجها، ومشهد والد فاطمة في آخر الممر، وهو ينتظر فاطمة ووالدتها ومشهد الوالدة وهي جالسة على الدرج وتخبر فاطمة بأن تجهّز نفسها للذهاب لزواج صديقتها، فقد اختار المخرج الخطوط الدالة، وذلك باستخدام خطوط مائلة أحيانا ومنحنية، أو متعرجة في أحيان أخرى حتى يقودنا إلى العنصر، أو الموضوع الرئيسي في الكادر، ويكثّف حالة الارتباك والخوف، والقلق، وعدم الارتياح لما سيأتي، فيما بعد، والذي بدوره سينتقل إلى المشاهد، وسيتحقّق عنصر الإثارة، والتشويق لمتابعة سير الأحداث.
ومن التقنيات التي لجأ اليها المخرج التأطير، والذي أعطي المشاهد عمقا وتركيزا أكثر ففي مشهد الوالد وهو يعد البندقية كان الباب بمثابة الإطار للمشهد وكان شباك فاطمة الاطار لمنظر الغيوم والسماء، وهذا يعطي الصورة تحديدا وعمقا يخدم الحالة الشعورية للمثلين داخل المشهد.
كانت ملامح الشخصيات الظاهرية وملابسهم وملامحهم الجسدية ونبرات أصواتهم، وطريقة ادائهم وتمكنهم من نسج العلاقات، فيما بينهم كافية للتعريف به، فمثلا قام المخرج بالتأسيس لشخصية فاطمة، بحيث يتمكن المشاهدون من تكوين انطباعهم عنها من خلال العمل على اختيارها بمواصفات معينة مثل البنية الجسدية من حيث القامة والعمر وملامح الوجه طريقة مشيتها تعابير وجهها البيئة التى نشأت بها، ومستوى المعيشة، وعلاقتها بالمجتمع والأسرة.
نستطيع استشفاف البنية الكلية، والبنى الفرعية التي تولدت منها من خلال تضاد ثنائيات متعددة مابين ما هو قائم، وما يجب أن يكون مثل تضاد ثنائيتي (العلم والجهل) فالطبيب كان يمثل دور العلم الذي مكنه من اكتشاف الحقيقة انا والد الفاطمة فكان يمثل دور الجهل الذي تسبب في المشاركة بإزهاق روح نتيجة التسرع وعدم تحكيم العقل (المواجهة والاستسلام ) لم يستسلم الطبيب فقد قرر مواجعهة الموقف وتصحيح الفهم الخاطئ مهما كلفه الأمر بعكس والدة فاطمة التي استسلمت لقرار زوجها بقتل ابنتها ولم تدافع عنها (الأمل واليأس) تمثل الأمل بدور الطبيب بأن تنجو الفتاة لو وصل في الموعد المحدد ويأس الأم من أي بادرة أمل لتنقذ ابنتها (القيادية والانقياد) مثلت الأم، وفاطمة دور المرأة المستلبة المنقادة والتي توجهها الظروف ويوجهها المجتمع فلا تملك القرار في أي أمر يخصها ويقابل ذلك المرأة القيادية التي غابت عن المشهد (السلبية والإيجابية) كان موقف الطبيب ايجابيا ولم يكن سلبيا وهذا ما عزز الأمل بنجاة الفتاة من الموت (الاستهتار وتحمل المسؤولية) أما في تضاد الاستهتار، وتحمل المسؤولية، فقد تمثل في دور الممرضة التي لم تهتم بفرز الأسماء وفرز نتائج الفحوصات مما أدى إلى حدوث سوء الفهم الذي تسبب في إزهاق روح بريئة ومن خلال كل هذه التضادات نصل بالنتيجة إلى المواجهة والجرأة في الطرح والتسلح بالعلم والبحث عن الحقيقة من شأنهه أن يخلق الوعي في المجتمع
ومن ضمن اشتغالات العمل الفلمي النهاية المفتوحة للعمل، وما تساهم به من خلق آفاق متعددة من التوقعات في ذهن المشاهد، التي تجعله يتوقع النهاية التي يريدها، بالشكل الذي يتناسب مع شخصيته وأفكاره، وحسب نظرية التلقي فان المشاهد وهو (المتلقي) يمتلك ما يسمى “أفق التوقعات ” التي يسقطها على الإحداث في تناوله لإحداث الفلم قبل مشاهدته ثم مقارنة العمل بعد مشاهدته بتوقعاته مستندا على عوامل ” أفق التوقعات” وهنا تكمن مهارة المخرج في صنع “المسافة الجمالية” التي تفصل بين “أفق النص”، “وأفق توقعات” المشاهد.
شارك الفلم في مهرجانات دولية وعربية وحصل على جوائز عديدة وأثنى عليه الكثير من النقاد والمهتمين بالشأن السينمائي، فقد كان صرخة مدوّية بوجه المجتمع وتم طرح المشكلة، ومعالجتها بكلّ شفافيّة، وجرأة.
فيلادلفيا نيوز نجعل الخبر مبتدأ