فيلادلفيا نيوز
لم تكن زيارة قريبي المريض في مركز الحسين للسرطان مجرد زيارة عابرة إلى مستشفى عادي، بل كانت رحلة إلى عالم مختلف تمامًا عما اعتدنا تخيُّله أو تجربته في المؤسسات الصحية، ليس في الأردن فحسب، بل في المنطقة بأسرها. لقد غادرت ذلك الصرح الطبي الشامخ وأنا أحمل في قلبي إيمانًا متجددًا بقدرة الإرادة البشرية على صنع المعجزات، وإدراكًا عميقًا بأن ما شهده قريبي من رعاية و نظام وترتيب وجودة وتعامل إنساني رفيع لم يكن صدفة، بل هو نتاج رؤية ثاقبة وتصميم لا يلين.
من اللحظة الأولى لعبور بوابة المركز، لفت انتباهي سيمفونية النظام التي تعزفها كل تفاصيل المكان،لا مكان هنا للازدحام العشوائي أو الارتباك الذي غالبًا ما يرافق المؤسسات الصحية الكبيرة ، استقبال منظم تجلى في مسارات واضحة ، موظفو استقبال مدربون تدريبًا عاليًا، يعرفون مهمتهم بدقة ، يوجهون الزوار والمرضى بابتسامة وهدوء، بيئة مهدئة من خلال الألوان الهادئة، الإضاءة الطبيعية المتدفقة، المساحات الواسعة والنظيفة بشكل لافت، والنظام الصارم في مواعيد الزيارات ، كلها عناصر تتضافر لخلق جو من الطمأنينة بعيدًا عن الضوضاء والضغط النفسي المصاحب للمرض ، حتى الروائح المعتادة في المستشفيات تبدو خافتة أو معدومة ، مما يعزز الشعور بالنظافة والتحكم البيئي ، رأيت التنقل السلس من خلال نظام واضح للإرشاد، مصاعد منظمة ، عربات نقل المرضى تعمل بانتظام ودون تأخير ، كل شيء يسير وفق خطة محكمة، مما يقلل من الإرهاق البدني والنفسي على المريض ومرافقه في وقت هم بأمس الحاجة إلى الراحة والتركيز على العلاج.
اما الخدمة الطبية ، حيث الجودة ليست شعارًا، بل واقعًا ملموسًا هنا يتجلى جوهر رسالة المركز: تقديم رعاية طبية على أعلى المعايير العالمية ، ما لمسته على قريبي وبشكل عام: دقة التشخيص وتعدد الخبرات، لا يعتمد التشخيص على رأي طبيب واحد بل نظام ” مجلس الأورام” (Tumor Boards) حيث يجتمع أطباء متخصصون من مختلف التخصصات ( أورام، جراحة، أشعة، علاج إشعاعي، وغيرها ) لمناقشة حالة كل مريض بشكل جماعي ووضع خطة علاج متكاملة وشخصية،هذه الدقة الجماعية هي ضمانة لا تقدر بثمن ضد الأخطاء أو الرؤى الأحادية ، خدمات طبية تقدم من خلال أحدث التقنيات والعلاجات ، فالمركز مجهز بأحدث ما توصلت إليه تكنولوجيا تشخيص وعلاج الأورام، من أجهزة التصوير المتطورة إلى أجهزة العلاج الإشعاعي الدقيقة ، كما يواكب المركز أحدث البروتوكولات العلاجية العالمية لتقديم رعاية طبية متكاملة حيث لا يقتصر العلاج على الجانب العضوي، اذ يشمل البرنامج العلاجي الدعم النفسي والاجتماعي من خلال أخصائيين نفسيين واجتماعيين مدربين، برامج إعادة تأهيل، علاج طبيعي، دعم تغذوي متخصص، وحتى الرعاية الروحية. هذا النموذج الشمولي (Holistic Care) يعالج المريض كإنسان بكامل أبعاده، وليس مجرد حالة مرضية ، كل إجراء يخضع لمعايير صارمة لضبط الجودة والسلامة، مما يضمن حصول المريض على أفضل رعاية ممكنة بأقل المخاطر و يعزز لدى المريض الشعور بالثقة.
اما قلب المركز النابض ، فهم الأطباء والكوادر الطبية المساندة ، حيث اللمسة الانسانية التي تذيب الجليد ، ربما تكون هذه النقطة هي الأكثر عمقًا في تأثيرها، خاصة في ثقافتنا حيث الخوف والوصم المرتبطان أحيانًا بمرض السرطان. ما رأيته وسمعته من قريبي يفوق كل توقع، الاحترام والكرامة ، حيث يتعامل كل فرد من الكادر الطبي والتمريضي والإداري مع المرضى وذويهم باحترام عميق وإنسانية نادرة ، الألقاب محفوظة ، الخصوصية مصانة، والمريض يُستمع إليه بكل اهتمام ، انه المكان الذي يشعر فيه المرء بأنه إنسان له قيمته قبل أن يكون رقمًا في ملف، حيث يخصص الأطباء الوقت الكافي لشرح التشخيص وخيارات العلاج والمضاعفات المحتملة والنتائج المتوقعة بلغة واضحة ومفهومة، يجيبون على كل الأسئلة بكل صبر ودون استعجال. هذه الشفافية تبني جسرًا من الثقة وتخفف من رهبة المجهول. الرحمة والتعاطف الحقيقيان،فهما ليسا مجرد أداء وظيفي ، فلمسات التمريض اللطيفة، كلمات الطبيب المشجعة، ابتسامة الموظف، صبر المتطوعين… كلها تنبع من تعاطف حقيقي وفهم عميق لمعاناة المريض النفسية والجسدية ، تجعل المريض يشعر بأنه ليس وحيدًا في معركته،فالكادر يدرك أن المرض يصيب الأسرة بأكملها،هناك دعم نفسي واجتماعي وتوجيه متاح أيضًا لأفراد عائلة المريض، مما يخفف عنهم عبء القلق ويساعدهم على تقديم الدعم الأمثل لمريضهم.
لم يكن مركز الحسين للسرطان مجرد مبنى عندما افتتح؛ كان تحدياً كبيراً لتوقعات المجتمع ولصورة الرعاية الصحية السائدة. اليوم، وبفضل ما يقدمه يومياً من إنجازات فقد تحول المركز في نظر الناس من مجرد “مكان لعلاج السرطان” (وهو أمر كان يُنظر إليه بخوف ويأس) إلى “صرح للشفاء والأمل”. أصبح رمزًا للتميز الطبي والإنساني، مصدر فخر للأردنيين والعرب، الكلمة التي تتردد: ” لو أصابك الداء، فالحسين ملاذك”.
و بفضل التوعية المستمرة وطريقة التعامل الإنسانية التي تركز على المريض كإنسان وليس على مرضه، ساهم المركز بشكل كبير في تقليل الوصم الاجتماعي المرتبط بمرض السرطان في المجتمع الأردني ، تشجيعًا على الكشف المبكر والعلاج دون خجل. لم يعد نجاح المركز سرً، لقد أصبح نموذجًا يُدرس ويُحتدى به على مستوى الشرق الأوسط والعالم، خبراته ونظمه تنتقل، وأطباؤه يدعوون للمشاركة في مؤتمرات عالمية. وجوده يرفع سقف التوقعات للمرضى في المنطقة عما يمكن أن تقدمه الرعاية الصحية.
لا يبالغ من يصف مركز الحسين للسرطان بأنه معلمٌ حضاريٌّ وصرحٌ طبيٌّ متقدم،انه دليل ملموس على أن الإرادة والعزيمة والرؤية الواضحة، مدعومة بالعلم والإدارة الرشيدة والتمويل المستدام يمكن أن تخلق مؤسسة عالمية المستوى في قلب الشرق الأوسط ، رغم كل التحديات المحيطة، يمثل المركز استثمارًا حقيقيًا في رأس المال البشري – ليس فقط في علاج المرضى، بل في تدريب جيل من الأطباء والممرضين والفنيين والإداريين على أعلى المعايير، وخلق كفاءات وطنية رفيعة المستوى.
خاتمة القول ، مركز الحسين للسرطان أكثر من مستشفى… انه وعدٌ بمستقبل أفضل ، فمغادرة مركز الحسين للسرطان بعد زيارة قريبي لم تكن مغادرة لمبنى، بل كانت مغادرة لفكرة قديمة عن المستحيل. لقد رأيت بأم عيني كيف يمكن للنظام والاحترام والكفاءة والتعاطف أن يتعانقوا لخلق معجزة إنسانية وطبية. رأيت نظرات الثقة التي حلَّت محل نظرات الخوف في عيون المرضى وذويهم، سمعت كلمات الشكر التي تُنقل من سرير إلى سرير وتتردد في كل مكان من المركز.هذا الصرح الشامخ ليس مجرد مكان لعلاج السرطان؛ إنه وعدٌ حي بمستقبل يمكن أن تكون فيه الرعاية الصحية في منطقتنا على هذا المستوى الرفيع من الاحترافية والإنسانية للجميع.
إنه شهادة على أن الجودة ليست رفاهية، والكرامة ليست خيارًا ، بل هما أساس الحق في الحياة والصحة. مركز الحسين للسرطان هو بالفعل شمعة أمل ساطعة ، ومعلم حضاري يرفع رأس كل عربي، وصرح طبي متقدم يكتب، كل يوم، فصلاً جديدًا من فصول التميز والإنسانية في سجلات الشرق الأوسط الطبية، فهنيئا للاردنيين والعرب هذا الصرح الطبي الشامخ ومبارك توقيع اتفاقية برنامج التأمين مع الحكومة الاردنية .
امين عام المجلس الصحي العالي السابق
