فيلادلفيا نيوز
قالَتِ العرب: ” رُبَّ أَخٍ لَكَ لم تَلِدَهُ أُمُّكَ” * وقد دَرَجَ فَهُمْ العامة على ضرب هذا المثل في الصديق الصادق الصدوق، الذي يكون في حِرْصِهِ وشَفَقَتِهِ عَلَيْكَ كأخيك الشقيق من أَبِيكَ وأُمِّكَ! ومن ذاك قول الشريف الرضي:
رُبَّ أَخ لي لم تَلِدَهُ أُمِّي يَنفي الأذى عنِّي وَيَجِلُو هَمِّي*
ويصطلي دوني بالمُلِم، إذا دعيت اشتد ماضي العَزمِ
كأن ما قال مُنادٍ باسمي…
بَعضُ أُولئك الأحبّة بكلمةٍ قد يداوي جُرحَكَ، ويُضحك سِنَّكَ، ويُحرّك فيك كوامن السعادة. لفتةٌ جميلة منه قد تنير حولَكَ بَعضًا من عتمة الحياة، وتشيع النور في طريقك، وتنثر الورد والحُب في سمائك.
قد يطوف كلامُهُ بِكَ بعيدًا عن واقعِكَ لأَنَّهُ يَبني واقعًا خياليًّا في مستقبلك. أدارت الأيام ظهرها لَكَ أَم أَقبلت، يبقى في فناء حياتك عمودًا، يَسند خَيمتَكَ، أو تَراهُ جَدوَلًا يمرُّ بِزَرعِكَ، يَسقي أشجارك.
الخل الوفى بَدرٌ يُطل على
مسيركَ، تَتَأمِّلُهُ فَيَسْرُّكَ، فَضلًا عن أن يُضِيءَ لَيْلَكَ. يَتلمّسُ أَعدَارَكَ قبل أن تجد تبريراتك، حريص على أَلَّا يُكثرَ عِتَابَكَ، فَبَعضُ العِتَابِ طريق للعقاب.
تَراهُ يَغفرُ الزِّلْةَ، ويأخذك بالمودة، ويُطيل العذرَ تِلوَ العُدْرِ، يُقَدِّرُ بِأَنَّنا بشر نصيبٌ وتُخطئ، فلا يأخذنا بقطيعة، ولا يُتَبِعْنا بِذَميمةٍ. يُوصِلُ حَبلَ الوُد فلا يقطعه، وإن مال عنا لا يُفجره.
وإن تَدَلَّلنا عَلَيهِ زادَنا دلالا، وإن غبنا عنه زادنا اشتياقا، فيبقى بين الخاطر والجفن، وإن غابَ عَنا بَقِيَ حاضرًا في نَظَرِنا.
الخل الوفي لا يُخالِفُ مَعدنَهُ، إن وَعَدَ وَفي، وإن استودع حفظ، وإن غابَ لم يَعْبُ ذِكرَاهُ، فَهُوَ بِمَنزلة النبض من القلب، ولا يُنسى مع الأيامِ لأَنَّهُ يَسكُنُ فِي طَيِّاتِ الدعاء، وبينَ رَجَاء التوفيق.
هو الذي إذا ضاقت عليكَ الدُّنيا، أوسعَ لَكَ صدرَهُ، وَإِذا عَشرَ حَالكَ، بَسَطَ لَكَ حِلمَهُ. لا يُحِيلُ خطأَكَ إلى عيبٍ، ولا يُقِيمُ عَلَيْكَ حَدَّ المحاسبة، بل يُربّتُ على قلبك، ويحمل عنكَ بَعضَ مَا أَتْقَلَكَ، كَأَنَّهُ يقولُ لَكَ: “إِنِّي أَنا أَخوكَ فَلا تبتئس.”
الخِلُّ المُزيَّف
أما الصاحب المخادع… فَظِلُّ لا أَمانَ فِيهِ، فَذاكَ دَخِيلٌ على مائدة القلوب، لا يأمنُهُ صدر، ولا تطمئن إليه روح.
يدخل حياتكَ مُتسلّلًا بِثَوبِ اللطف، فإذا أَمِنتَهُ خَانَكَ، وَإِذا وَثِقَتَ بِهِ كَشَفَ سِرَّكَ، وإذا التمست منه سَندًا، كَانَ أَوّلَ من يَخْذُلُكَ. لا يَراك إلا مصلحةً، ولا يُحادثُكَ إِلَّا حاجةً، وإن غبتَ عَنْهُ نَسِيكَ، وإن حضرت أَثقلَكَ بِمَن وتعداد.
لا يداوي جرحًا، بل يَزيدُهُ مِلحًا، ولا ينير طريقًا، بل يُضللك بابتسامة زائفة وأخوّةٍ مصطنعة. ذاك لا يصلح أن يكونَ خِلَّا، ولا يَصلُحُ لَهُ
ذكرٌ في دفاتر المودّةِ؛ لأَنَّهُ يُشبِهُ الظَّلَّ إذا أقبلت الشمس، ويختفي إذا أدلهمت السماء.
معدن الخل الوفي
معدن الخل الوفي يُعرف عندَ المحك، وقد يتأخّرُ اكتشاف هذا الخل الوفي، فلا تَعرفُهُ في سَعةِ الراحة، ولا في دفء المجاملة، بل حين تدير الحياة وجهها الحقيقي نحوك، فتسير معه في سَفَرٍ طويل، أو تَحْتبَرُهُ عِندَ تَضَارُبِ المصالح واختلاط النّيات.
هناك، فقط، ينكشف الستر، ويسقط القناع، ويَتَبَيَّنُ لَكَ: مَنِ الذي يثبت في العُسر كما في اليُسرِ؟ مَنِ الذي يُعلي كَفَّكَ إِذا خف ميزانُكَ؟ وَمَنِ الذي إن استقامت له السُّبُلُ، لم يَنسَ أَنَّكَ كنت يومًا رفيق دربه؟
فالسَّفْرُ مِرْآةُ الطَّبَاعِ، وَتَضَارُبُ المصالح ميزان القلوب، وإن كان للخل الوفي مَعدن، فذاكَ لا يصدأ مهما قَسَتِ الظروف وتبدّلت الأحوال.
وقد صدق الشاعر حين قال:
جزى الله الشدائد كلَّ خيرٍ
وإن كانت تُغصصني بريقي
وما شكري لها حمدًا ولكن
عرفت بها عدوي من صديقي
فكَمْ مِن قُربِ ظاهري كَانَ سَطحًا لا عمق فيه، وكم من كلمةِ وَدِّ نطقت بها الألسن لم تصل إلى القلب.
والخل الوفي وحدَهُ، هو الذي يُثبِتُ صِدق المودة بالفعل لا بالقول، وبالحضور لا بالذرائع، وبالوفاء لا بالمصلحة.
