الجمعة , نوفمبر 15 2024 | 9:54 ص
آخر الاخبار
الرئيسية / كتاب فيلادلفيا / الدكتور عامر العورتاني* يكتب: الإنسان المثقف في مواجهة تحديات العصر 

الدكتور عامر العورتاني* يكتب: الإنسان المثقف في مواجهة تحديات العصر 

فيلادلفيا نيوز

لا زال العالم يخضع للعولمة ونتائجها وتأثيراتها ، ويتعامل مع منطق السوق بما يفرضه من سلعنة القيم والأفكار وحتى الإنسان ، وفي خضمّ التحوّل السريع والمتواتر للبُنى المختلفة ، لم يعد المرء قادراً على الشعور بتلك التغيّرات التي ما انفكت تعصف بمجريات الحياة ، مما جعل مختلف  المجتمعات عُرضة لموجات من الطفرات السريعة التي أحدثت خللاً في جميع المستويات ، لتُلقي ثورة الاتصالات بظلالها من خلال إحداث فجوة ملموسة في العلاقات بين الواقع الأرضي والعالم الافتراضي ، لتتسلّم وسائل التواصل الاجتماعي دفّة القيادة وتفرض سيطرتها على المشهد الكونيّ ، وبما أنّ الثقافة تعتبر مفهوماً مركزياً في الأنثروبولوجيا ، فهي متحف للإرث الاجتماعي الذي يمثّل حصيلة الإنتاج الفكري والفني والأدبي والقيمي للمجتمع والذي يتبلور في هيئة ما يسوده من أفكار ونُظم أيدولوجية ، إضافة إلى كون نتاجات المجتمعات الاقتصادية والعلمية تشكّل الركن المادي لثقافاتها ، فإنها – أي الثقافة – لم تكن بمنأى عن التأثر بمفرزات العولمة وإن اختلفت غاياتها ما بين تنافس الدول الكبرى من جهة  ، أو تحديث المجتمعات ، والاهتمام بنشر الإبداع الإنساني ، أو التوسع التجاري من جهة أخرى  .

وفي غمرة الحديث عن مفهومي الثقافة والعولمة وغاياتها وطبيعة العلاقة التي تحكمهما ،فإنّه من المؤكد أنّ المثقّف أصبح مضطراً للصعود بدوره ، فهو مرتبط بتشكيل الوعي الجمعيّ  من خلال دراسة ميكانيزمات حركة المجتمع ، والمعرفة العميقة للبُنى الاجتماعية ، والتكوين البنيوي النفسي للمجتمع بما يدفعه للاتجاه نحو البناء الفعّال ، فالمثقف شخصية مُشبعة بهموم الواقع ، منغمسة في المجتمع بمختلف بناءاته ، وهو ما يفرض التأكيد على ضرورة فك الاشتباك الدلالي للمقصود ب( المثقف ) كي لا ينتهي مصطلحاً فضفاضاً يضم تحت عباءته الكثيرين ، فالمثقف يرتبط بالتفاعل والفاعلية ، ويتجاوز الواقع في التفكير ، ولا يقف عند حدود معرفته وتخصصه العلمي ، بل يمتد ليشمل كل ما هو وطني وإنساني ، و إنّ روح الإنسان المثقف تسلك الطريق الصعب وتتسلق الجبال الشاهقة بحثاً عن الجديد من الأفكار ، لابتكار الحلول من أجل عرضها في الثوب اللائق على المجتمع ، فيأخذ المثقف أهميته بحسب قدرته على التأثير في المجتمع .

إنّ التفاعل الحاصل بين المثقف والمجتمع يمثل قطبي التفاعلات الاجتماعية ، فالمثقف يرصد الأحداث ، ويسلط الضوء عليها باحثاً عن مكوناتها وأسباب حدوثها والآثار الناجمة عنها ، فدوره يتجه نحو الارتقاء بالإنسان وتهذيبه من خلال توعيته بالجوانب السلبية ليتفاداها ، وبالجوانب الإيجابية والقيم العليا ليتمسك بها ، وهو ما يمكن أن نطلق عليه التخلي قبل التحلي ، ليصل بالمجتمع وهو القطب الآخر إلى الصورة المُثلى ، فالمثقفون جزء من المجتمع ، وبعضٌ من نسيج علاقاته ، وهم يشتركون في  المجموع الاجتماعي وفي منظومة القيم العليا ، فهم كسائر الأفراد يشاركون في مؤسساته الاجتماعية انتماء لها أو فاعلية فيها بحكم المهنة ، أو بدافع أداء دور في التنظيم الاجتماعي ، فالمجتمع يُقدّر الفرد الذي يُثري ثقافته ،
أو يضيف إلى تراكمها وإرثها عبر الأجيال ، بينما لا يُقابَل الفرد الذي يتقاطع مع ثقافته سوى بالرفض  ، لذا فإنّ أهم وظائف المثقف هو الإنتاج الثقافي ببحثه عن المعارف التي يستقي منها المعلومات ، وإخضاعها للتدقيق ، ووضعها في سياق مباشر مع مصالح المجتمع ، والتي يهدف من خلالها إلى رفع مستوى الأفراد ليستحقوا حياة أفضل ، وبذلك يكتمل دور المثقف بمدى التزامه بقضايا مجتمعه ، والدخول في خطاب مباشر مع المجتمع ، وتدريب عقول أفراده على التفكير، والعمل الإيجابي ، ودفعهم للقراءة ، والبحث عن المعرفة .

لعل من أهم الإشكاليات التي تواجه الثقافة والبناء الثقافي للمجتمع ، هي مسألة تبسيط المحتوى العلمي والأدبي والفني والفكري على ألّا ُيخِلّ بالمضمون  بما يكفل أن يصل إلى مختلف فئات المجتمع ، فالهمّ الأكبر الذي ينبغي للمثقف أن يحمله على عاتقه في زمن سرعة الاتصال ؛ يتمثل في تقديم المعلومة بمرحلتها الأبسط والأكثر قيمة  لضمان وصولها إلى أكبر عدد ممكن من الأفراد ، لا سيّما الفرد العادي ، وذلك لرفع درجة وعيه ، فالملاحظ أنّ المواضيع الفكرية  العميقة التي تطرح مضامين مختلفة  ذات أبعاد متعددة لا تحظى غالباً بدرجة كبيرة من الإقبال من قبل الأفراد ، على العكس من المواضيع ذات المحتوى البسيط والتي تحظى بإقبال واسع ، ومع ذلك فإنّ الكتب المتخصصة والندوات الفكرية  ذات الطرح الثقافي العميق لها قراؤها وروّادها بين النخبة الثقافية ، مع وجود أمنية دفينة بأن تتسع مساحة هذه النخبة لتشمل المجتمع بكافة فئاته ، فوجود ” نخبة ”  تحترف الثقافة استيعاباً وإنتاجاً قد يُعتبر بحدّ ذاته قصوراً في آلية الطرح  ونوعية الإنتاج الثقافي ، ما يُهيئ البيئة المناسبة لوسائل الاتصال الاجتماعي والتي باتت تُتقن صناعة ثقافتها الخاصة ، وتُتقن كيفية عرضها على الجمهور الواسع من مستخدميها عبر القارات .  

إنّ حماية الأمن الثقافي من المخاطر التي تحملها التحولات والثورات العلمية السريعة ، وبخاصة تلك التي تحققت في مجال الاتصالات ،  كشفت عن هشاشة القدرة الدفاعية – الثقافية والعلمية – للمجتمعات الأضعف في سلم القوة العالمي  ، وماذا لو استمر التطور العلمي والاجتماعي بنفس هذا التسارع المذهل ، لا بدّ وأنّ ذلك يعني استمرارية ظهور تحديات كبيرة تطرح مستويات جديدة من القيم الإنسانية ، وهو ما يوجب على المثقف أن يبقى في الساحة  يُنتج و يتصدى و يقاوم  ويصنع الرؤى الجديدة ، ليُساهم من خلالها في بث روح فتيّة في ثقافة المجتمع ، لتستعيد حيويتها وديناميكيتها . 

*أخصائي علم اجتماع الجريمة

Dr.Amer.Awartani@Gmail.Com

 

طباعة الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تنويه
• تتم مراجعة جميع التعليقات، وتنشر عند الموافقة عليها فقط.
• تحتفظ " فيلادلفيا نيوز" بحق حذف أي تعليق، ساعة تشاء، دون ذكر الأسباب.
• لن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة، أو خروجا عن الموضوع محل التعليق، او يشير ـ تصريحا أو تلويحا ـ إلى أسماء بعينها، او يتعرض لإثارة النعرات الطائفية أوالمذهبية او العرقية.
• التعليقات سفيرة مرسليها، وتعبر ـ ضرورة ـ عنهم وحدهم ليس غير، فكن خير مرسل، نكن خير ناشر.
HTML Snippets Powered By : XYZScripts.com