الجمعة , نوفمبر 15 2024 | 12:28 م
الرئيسية / كتاب فيلادلفيا / محمد رسول الطراونة يكتب: كورونيات -96

محمد رسول الطراونة يكتب: كورونيات -96

فيلادلفيا نيوز

الاثنين 11 أيار 202

الصحة بين السياسة والاقتصاد …. في الحقبة الكوروني

اثبت فيروس كورونا بما لا شك فيه ولا جدل وجدال حوله أن الصحة والسياسة والاقتصاد متلازمة ثلاثية الابعاد تربطها أواصر أقوى من النسب والمصاهرة وقد تصل الى درجة ذو القربى، ومما لا شك فيه ايضا أن الصحة هي رأس المال الأول للدول، لا بل مصدر أمنها واستقرارها، ومؤشر قوتها ومنعتها، فاليوم لم يعد خافيا على أحد ان الاقتصادات تدفع الثمن من جراء وباء كورونا.

لم أكن في يوم ما من اهل السياسة ، فقد حسمت الامر واستمعت الى وصية شقيقي الأكبر لي قبل أربعين عاما ونيف عندما حزمت حقائبي للسفر بقصد الدراسة حيث اوصاني بالحذر من ثلاث تبدا بحرف السين : السياسة والسباحة والستات والتزمت باثنتين من سينيته، ولعلي اليوم اجد نفسي تواقا لسبر دهاليز السينية الثالثة – السياسة- بعد ان خلطت كورونا أوراق الصحة والسياسة ودخول الاقتصاد كلاعب ثالث ليعود الى الساحة الجدل الذي شغل تفكير اهل السياسة لعدة عقود في محاولة منهم لفك لغز مصطنع : أيهما يحرك الآخر السياسة أم الاقتصاد ؟ ليسقط اللغز أمام الصحة التي تقود العالم اليوم في مواجهة فيروس كورونا، اذ اتخذت الدول إجراءات عديدة أوقفت الحياة الاقتصادية برمتها، وذلك حفاظاً على صحة مواطنيها، كونها المحرك الأساسي للاقتصاد، فبالرغم من تعاظم دور التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في محاولة احتواء العديد من الصعوبات خلال هذه الأزمة، ولكن يبقى الانسان هو محور الاقتصاد.

  أزمة كورونا وضعت الحكومات ومتخذي القرار وصانعي القرار وكل من له علاقة بالقرار -الشق السياسي من المعادلة -بين خيارين أحلاهما مر، بين تحدي الحفاظ على الاقتصاد وإخراجه من حالة الكساد او تجنيبه الانكماش او تحريك ركوده وما شابهها من مصطلحات اقتصادية لا يفهمها الا أصحاب المال، وبين الحفاظ على صحة المواطن بمنع الاختلاط وإجراءات الحظر والعزل مع التهديد بتوقف عجلة الاقتصاد وشلل اقتصادي تداعياته كبيرة ومؤثرة، لا يعلم نهايتها الا الله. 

وتسعفني الذاكرة هنا لأستذكر ما كتبته البروفسورة هيلن وارد من كلية ” إمبيريال كوليدج” في لندن، وكان لي شرف مقابلتها العام الماضي في لندن على هامش المنتدى العالمي للسياسات الصحية ، امرأة حديدية من شاكلة تاتشر وأسخم، حيث كتبت ” قلنا نحن العلماء للسياسيين أنه ينبغي فرض الحجر المنزلي لكن السياسيين رفضوا الاستماع إلينا “ فاستفحل الوباء وانهار النظام الصحي ودفعت الصحة البريطانية الثمن غاليا ، في حين تميزت أنجيلا ميركل والتي حصدت الإشادات لتصديها للوباء، بإعطائها أهمية كبرى لرأي علماء الأوبئة الالمان حيث كتب خبير الأوبئة كريستيان درو ” ما ساعد ميركل على فهمنا والاستجابة لنا  ، أنها عالمة فيزياء ولديها القدرة على فهم الأرقام”.

هذا الجدل القائم بين اهل السياسة واهل الاقتصاد سواء كان في السر ام في العلن، يأتي في ظل تأكيد وإصرار كافة خبراء الصحة والوبائيات على أن استراتيجية ” التباعد الاجتماعي والحجر والحظر” هي الأكثر فاعلية في منع انتشار هذا الفيروس وتقليل مخاطرة على البشر – طالما لا يوجد علاج او لقاح للفيروس– والتي تستدعي الايقاف المؤقت لغالبية الأنشطة الاقتصادية التي تتطلب تجمع واختلاط الناس. 

ندرك حجم الضغوط التي يمارسها رجال المال والأعمال على الحكومات في شتى بقاع العالم بشكل علني وغير علني للسماح للقطاعات الاقتصادية غير الحيوية بممارسة أعمالها بشكل طبيعي، بحجة أن عجلة الاقتصاد يجب أن تستمر، حتى وان ترتب على ذلك تبعات صحية على حياة العاملين، ولكن اما آن الاوان أن نتعلم من دروس الدول التي تهاونت في تطبيق استراتيجية التباعد الاجتماعي وتلك التي سارعت برفع الحظر وفكت قيوده واستجابت لضغوط السياسيين والاقتصاديين في مواقع المسؤولية.

للوهلة الأولى، يبدو أن هناك مفاضلة بين أمرين متعارضين: إنقاذ الأرواح ام إنقاذ الأرزاق، لكنها في الواقع معضلة زائفة – فالسيطرة الحقيقية على الفيروس هي الأساس والشرط اللازم لإنقاذ الأرزاق.

ندرك مدى صعوبة تحقيق التوازن الصحيح بين ركني المعادلة ونقول كان الله في عون الساسة، فليس هناك من عصا ليمسكوها من النص، فالنشاط الاقتصادي يتداعى مع تأثر العمالة والشركات وسلاسل العرض بإجراءات مكافحة الجائحة، والإنفاق المترتب على فقدان الوظائف يتراجُع والتضييق الحاد للأوضاع المالية تتسع زاويته، لكنها ساعة الخيار الصعب: إلى أي حد يمكن تخفيف قيود الطوارئ وإجراءات العزل؟ ما العمل لضمان توازن بين ما يخدم ثلاثية: صحة الإنسان و”صحة” الاقتصاد و”صحة” السياسة. 

بعثرت كورونا اوراق السياسة والاقتصاد ولوحت بورقة الصحة، أوراق مبعثره يصعب لملمتها: انتخابات الرئاسة الأميركية، العولمة، حرب أمريكية صينية، التكافل الاجتماعي والبطالة والفقر، انهيار الاقتصاد وتعطل المصانع وإفلاس شركات الطيران، إغلاق المدن والحدود، توزيع الكمامات، سائق الشاحنة وما إلى ذلك من عناوين تدور حول السياسة والاقتصاد والمجتمع والصحة والأمن، وبطلها واحد هو فيروس كورونا. 

قالوا العقل السليم في الجسم السليم… وهل نحن بحاجة الى براهين كي ندرك أن الصحة هي الأهم …اثبتت أزمة كورونا أن الصحة هي القيمة الإنسانية العظمى التي وحدت البشرية، وبين الصحة والمال يختار المرء بلا تردد الأولى، إلا أن الحكومات لها فلسفتها ومعاييرها، فتردي الاقتصاد وشلله قد يسبب ارتدادات عنيفة ليس فقط على قوة الدولة السياسية والاقتصادية، بل على المجتمع عامة.

ختام الكلام …. أطباء … سياسيون …. اقتصاديون… عليهم الاخذ بتحذير خبراء الصحة العامة من أن تخفيف عمليات الإغلاق يجب أن يكون مصحوباً باختبارات وعمليات رصد وتحري وتتبع أوسع للأشخاص المصابين لمنع الفيروس من العودة وان يتذكروا ان الصحة هي أساس الاقتصاد المتين والاقتصاد هو معول السياسة الحكيمة وكلهم مجتمعين يشكلون مكونات الحكم الرشيد …. فالمسألة تتطلب إيجاد حلول مبتكرة توائم بين الأولوية الصحية والخطط الاقتصادية، والله اعلم. 

كلي شوق لأرى شكل العالم بعد كورونا …. لأرى الصحة … واسمع السياسة … واعيش الاقتصاد.

 

طباعة الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تنويه
• تتم مراجعة جميع التعليقات، وتنشر عند الموافقة عليها فقط.
• تحتفظ " فيلادلفيا نيوز" بحق حذف أي تعليق، ساعة تشاء، دون ذكر الأسباب.
• لن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة، أو خروجا عن الموضوع محل التعليق، او يشير ـ تصريحا أو تلويحا ـ إلى أسماء بعينها، او يتعرض لإثارة النعرات الطائفية أوالمذهبية او العرقية.
• التعليقات سفيرة مرسليها، وتعبر ـ ضرورة ـ عنهم وحدهم ليس غير، فكن خير مرسل، نكن خير ناشر.
HTML Snippets Powered By : XYZScripts.com