فيلادلفيا نيوز
تحركت الساعة الزمنية والبيولوجية وفرشت الأسطورة الفلسطينية جناحها على الزمان والمكان، الماضي والحاضر، وسقط الخيال على أرض الواقع في هذا اليوم التاريخي، اليوم الوطني والعالمي، يوم 5/1/2023 بالإفراج عن الأسير الفلسطيني كريم يونس بعد أربعين عاماً من اعتقاله خلف قضبان سجون الاحتلال.
الجبل الفلسطيني أصبح حراً، وهذا الجبل المصنوع من إرادة وكبرياء وشرف وكرامة وأحلام، ومن دم ولحم وقلب ينبض ويدق، يتحرك بشموخ في الفضاء الفلسطيني، الجبل الرمز للصمود والصبر والإصرار على الحرية والاستقلال، الجبل الذي لم يتفتت ويتهاوى في ظلمات السجون، ولم يتكسر تحت سياط التعذيب والقمع والقهر والحرمان، الجبل الذي لا زال علم فلسطين يرفرف فوقه ويحرك هواء الجليل والنقب واللد وعكا، ومن قلبه انطلقت الهبات والانتفاضات والصلوات والمواجهات، الجبل الذي يشير إلى القدس عاصمة دولة فلسطين الحرة، يشير إلى الدماء والأرواح وآلاف الشهداء والأسرى والجرحى والمبعدين، جبل تتجمع فوق قممه جموع الشعب الفلسطيني العظيم، الجبل الذي صار مدرسة وتربية ودلالات وقيم وثقافة للأحرار وللعدالة الإنسانية، الكفاح ضد الظلم والاستعمار، الإصرار العنيد حتى الموت من أجل الحرية وحق تقرير المصير.
الأسير كريم يونس الجبل الحر، أربعون عاماً وهو يحمل الصخرة الثقيلة، إنه سيزيف الفلسطيني، لم يقع في الوادي السحيق، أقدامه على الأرض ورأسه عالياً في السماء، إنه الفلسطيني الندّ للسجان وللمحتلين، الندّ المنتصر من أجل الحرية والحياة الكريمة، لم يمتصه جدار السجن ويحوله إلى رقم أو صفر أو شيء يمكن السيطرة عليه، أربعون عاماً من التمرد والجوع والاشتباك مع الحديد، حياته كانت أمامه حافلة بالفرح واليقين، وحياة السجان كانت حافلة بالفاشية والخوف والانحدار الأخلاقي والإنساني حتى صار السجان سجيناً أمام جبل ظل واقفاً في وجه العواصف والجريمة.
الأسير كريم يونس الجبل الحر، الأسير الذي حول ساحة السجون إلى معركة وخندق وأكاديمية وطاقة، وأغنية تحفظها الأجيال الفلسطينية في المدرسة وفي المظاهرة، في النشيد الصباحي والموت والولادة، في الرسومات والرسائل وفي ظلام الزنزانة، كان يبصر القادم أكثر مما يبصرون، كان الشاهد والوثيقة والرواية والأمل، يرفع الموت قليلاً ويستمر في الحياة، يرمم جسده سنة وراء سنة كي لا يصدأ الوعد والحلم، مستيقظاً ليل نهار حتى يحترق السجان في الظلمة الداكنة.
الأسير كريم يونس الجبل الحر، الشاهد الفلسطيني على الجريمة الإسرائيلية المستمرة بحق أبناء شعبنا، عاش كل المراحل والمجازر والمذابح خلف جدران السجون، ودع المئات من أصدقائه الذين قتلوا قهراً ومرضاً وتعذيباً ولم تجف دمائهم حتى الآن، إنه رهين ألف محبس وألف لائحة اتهام، الشاهد اليومي على النازية الصهيونية وعمليات القمع والبطش التي تستهدف تحطيم الإنسان، هو السماوي الفلسطيني الطريد، حمل ذخيرة حية من بطولات الأسرى والأسيرات، ولم يركع ولم يساوم، وأعطى عمره كله لكل شهيد وحر حتى اكتملت فيه كل أركان العبادة وتعاليم الصلاة، ذاكرة فلسطينية تحتشد بدعاء المرحومة أمه وهي تنتظر هذا اليوم الموعود، وها هي تستقبله من السماء العليا ومن نوافذ الآخرة.
الأسير كريم يونس الجبل الحر، الاحتلال إلى زوال والحرية هي الخاتمة، صدأت أبواب السجون، جرت حروب ومتغيرات، وكم صيف وشتاء وموت وولادة؟ تعفن الجدار، يئس الجلاد، جرّبت حكومة الاحتلال كل قوانين البطش والخنق والقمع ووسائل شطب الهوية النضالية للإنسان الأسير، في كل مرة يظهر وجه كريم يونس يحمل عتاده الإنساني والنبوءة النضالية، يحمل آلامه وإرادته، يهزم الليل والغياب، يرى أبعد من دولة عسكرتارية دينية عنصرية قلقة، يرى شمساً في السجن وخلف الظلمات.
الأسير كريم يونس الجبل الحر، تضخمت دولة الاحتلال عسكرياً وأمنياً واستيطاناً، توسعت السجون، اعتقالات جماعية، إعدامات تعسفية، رغم كل ذلك لا زالت تسمع من يدق على الجدران، ولا زالت مشغولة بالحراسات والتشديدات وتغيير القوانين والتعليمات، ولم تتوقف الدقات والأنفاس، كريم يونس يمر كالسحاب، هناك من يشعل الجوع في الإضراب، هناك من يحرر السجن من داخله، هناك من يحفر نفقاً ويقفز عن الأسلاك الشائكة.
كم حرب شنت إسرائيل على كريم يونس وآلاف الأسرى والأسيرات، 233 شهيداً قتلوا في السجون، أكثر من 600 أسير مصابون بالأمراض الخطيرة، آلاف المداهمات بكل وسائل القمع والعزل والتنكيل والمحاكمات الجائرة، العقوبات الفردية والجماعية، التمييز العنصري والضرب بعرض الحائط بكل الاتفاقيات والمواثيق الدولية، الحشر والتعذيب والتهديد والحرب الجسدية والنفسية، لكن كريم يونس لم يختف من الوقت، أكثر من 15 فرداً من أبناء إخوته وأخواته ولدوا خلال 40 عاماً، وكبرت العائلة، اختنق الإسرائيليون في الديموغرافيا وأسرار النطف المهربة.
الأسير كريم يونس الجبل الحر، يخرج من بوابة السجن إلى قبر أمه ليقرأ الفاتحة، يلبس قميص آخر شهداء الأسرى ناصر أبو حميد ويدعو كل العالم أن تفك عن رقبته حبل المشنقة، الاحتجاز في ثلاجات الموتى الباردة، النكبات المتتالية، كريم يونس في مخيم الأمعري وفي مخيم الدهيشة، وكريم في كل بيت وفي كل صرخة، لملموا جروحكم وتوحدوا هنا على هذه الأرض نرتفع فوق أقدارنا ونعانق الحياة القادمة.
الأسير كريم يونس الجبل الحر، ها هو في جنين ونابلس، يعيد لأبي جندل بندقيته ولحارة الياسمينة ترانيم الأغنية، ينادي على كمال أبو وعر وميسرة أبو حمدية وعدي التميمي، يضيء شجرة الميلاد في ساحة مهد المسيح، فالشهداء لهم بشرى ورؤية وأجنحة.
الأسير كريم يونس الجبل الحر، فاوض الموت أربعين عاماً، شاخ الموت، صرخ الموت، وعندما اكتشف أن هذا التفاوض هو حوار السيف مع الرقبة كما قال غسان كنفاني، السلام الذي صار أشد من الحرب، السلب والنهب والقتل والهدر والاستيطان ونزع الشرعية عن نضال الشعب الفلسطيني، انتفض كريم يونس، قلب الطاولة، السجن أرحم من العيش في حظائر ومعازل بائسة، حياتنا تطل من عزمنا غدا، فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا.
الأسير كريم يونس الجبل الحر، نحن أهل الأرض اقرعوا الأجراس وامنعوا المحتل أن يجثم فوق أجساد المعذبين والمظلومين والفقراء، خير لنا أن نموت واقفين مرفوعي الرؤوس من أن نموت ونحن راكعين، ارفعوا رؤوسكم فأنتم فلسطينيون.
فلسطين تستقبل الجبل الحر، الأرض والسماء والبحر والشجر، الأولاد والشباب والنساء والشيوخ، الأحياء والشهداء، وستكون البداية بعد أربعين عاماً وتنكسر الدائرة، زمن فلسطيني جديد يبعث من تحت الرماد، زمن له لغة خارج نظريات وعبقريات المستعمرين وخبراء السيطرة والسلبطة وتحوير الإنسان، الكرامة لا تقاس بالدقائق والساعات والسنين، الكرامة سرمدية أبدية منذ أن كان الموت أجمل من الحياة، ومنذ أن حمل الأسرى مئات السنين فوق أكتافهم لا يهرمون، الوقت ملك أياديهم في عمرهم الطويل.
أهلاً بالجبل الحر كريم يونس، نحبك ونشتاق إليك، نعتذر لك، نعتذر لآلاف الأسرى الذين يقضون سنوات طويلة في سجون الاحتلال، نعتذر لأننا تركناك كل هذه المدة، حاولنا وحاولنا، وما عليك سوى أن تخترق فينا كل هذا العجز، ولكي نعرف كيف نكتب الفجر ونخرج من حصار التيه والانقسام، هل تشرح لنا صدرك وتقبل الاعتذار؟