فيلادلفيا نيوز
خمسة وعشرون عامًا مرّت منذ أُعلن عن مشروع سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة، بوصفها باكورة الرؤية الملكية في تحويل المدينة الجنوبية إلى بوابة اقتصادية ولوجستية وسياحية للعالم، ونموذجًا إداريًا متقدمًا يُحتذى كانت الفكرة رائدة، وكانت التشريعات مرنة، والصلاحيات واسعة، بل وحُفِزت العقبة بما لم يُحفز به أي جزء آخر من الوطن.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه بعد عقدين ونصف من الزمان: هل طحنت هذه الرحى قمحًا؟ أم أنها دارت طويلًا على فراغ؟
من الناحية الشكلية، تحقق الكثير …البنية التحتية تطورت، والميناء نُقل بكفاءة، والفنادق والمجمعات التجارية انتشرت، والمدينة تحولت إلى شبه مقصد سياحي إقليمي في فترات لكنها متذبذة موسمية متأثرة كثيرا بما يجري في دول الجوار
لكن أي دارس للاقتصاد يعلم أن الشكل لا يكفي وان المظاهر قد تخدع فاقتصاد المدن لا يُقاس بجمال واجهاتها ولا بكثافة فنادقها، بل بما تخلقه من قيمة مضافة، وما تنتجه من سلاسل توريد محلية، وما تسهم به في الناتج المحلي الإجمالي على نحو مستدام.
وهنا تبرز المعضلة
رغم حجم الاستثمارات المعلنة، لم يتحول اقتصاد العقبة إلى اقتصاد منتج بقيت معظم الاستثمارات في القطاعات الخدمية، لا التصنيعية أو التكنولوجية. ولم تتأسس قاعدة صناعية صلبة ترتبط بالميناء كمرفق حيوي، ولا ظهر نشاط لوجستي تنافسي يستفيد من موقع العقبة الاستراتيجي كمفصل تجاري إقليمي.
وبموجب منطق “المدينة الاقتصادية”، يُفترض أن تكون العقبة جاذبة للوظائف خالية من البطالة ، لكن الواقع يُظهر مفارقة مؤلمة حيث نسب البطالة مرتفعة، خاصة بين الشباب من أبناء المدينة، وفجوة واسعة بين فرص العمل المتاحة ومهارات السكان المحليين.
وما زالت معظم الوظائف الجاذبة تذهب للقادمين من خارج العقبة، وما تزال الاستثمارات تُصمَّم بمنطق الربح السريع لا بمنهجية التنمية المتكاملة.
وحين يطل السؤال الاكثر جدلية لماذا لا تطحن الرحى؟
فأن الاجابة بالتأكيد تنطلق من اعتبارات عدة اهمها غياب التنويع الاقتصادي فاقتصاد العقبة لا يزال متمحورًا حول قطاعات محدودة السياحة، الخدمات، الميناء أما القطاعات القادرة على توليد نمو حقيقي — مثل الصناعة، الطاقة المتجددة، الاقتصاد الرقمي، والتعليم التقني — فلا تزال في طور الحديث لا الإنجاز.
ثم ان الاستثمارات الكبرى في العقبة لم تنشئ شبكة من المشاريع الصغيرة والمتوسطة المرتبطة بها وهذا ما يسميه الاقتصاديون “الروابط الاقتصادية”، والتي بدونها تبقى الاستثمارات مثل جزر معزولة لا تُغني البيئة الاقتصادية المحلية ولا تساهم في نمو حيوي ومستدام
وكون سلطة المنطقة الخاصة تتمتع باستقلالية في اتخاذ القرار ” او هكذا يفترض على الاقل” الا إنها باتت مرتهنة لنهج بيروقراطي تقليدي، يفرز قرارات بطيئة، معتمدة على الإنفاق الجاري لا الاستثماري وترك الامر لشركة تطوير العقبة في التطوير الامر الذي اخضع كل تطوير لقرارات فردية تبدو باهتة احيانا وتعزز هذا الامر حين انتزعت رئاسة مجلس ادارة الشركة عنوة من رئيس مجلس المفوضين ليذهب الى من يشغله من القطاع الخاص وهنا تبدو المفارقة اكثر فكيف تكون الشركة الذراع التطويري لسلطة المنطقة الخاصة وهي اي السلطة لا تمتلك اي سلطة فيها بعد ان طارت رئاسة مجلس ادارتها الى جهة غير معلومة .
على اية حال وحتى لا يقال اننا عبثيون في الطرح سوداويون في الرؤية فأن الحلول قد لا تبدو مستحيلة و اذا اردنا أن تعود الرحى إلى طحن القمح، لا بد من تغيير الرحى و نوع الحبوب أولاً عبر تحفيز الاستثمار الإنتاجي الذي يجذب مستثمرين حقيقيين في قطاعات التصنيع الخفيف، والتكنولوجيا، والصناعات البحرية والدوائية وتأهيل الكوادر المحلية بإنشاء معاهد تقنية ترتبط مباشرة باحتياجات السوق والمشاريع القائمة.
وإعادة هيكلة السلطة لتتحول من هيئة تدير إلى مؤسسة تبتكر، ذات أهداف اقتصادية واضحة تقاس بمؤشرات حقيقية مثل نسبة النمو، وعدد الشركات المنتجة، وحجم التصدير وحجم البطالة .
العقبة الخاصة لم تكن مجرد مشروع إداري، بل كانت حلمًا وطنيًا كبيرًا. لكن الأحلام إن تُركت دون مراجعة، تتحول إلى ديكور في ذاكرة المدن.
الرحى لا تطحن قمحًا إن كانت تدور دون هدف، أو يديرها من لا يعرف الحصاد.
ولعل الوقت قد حان لتقف العقبة أمام الواقع وتسأل: هل نحن بوابة المستقبل؟ أم أننا مجرد واجهة لا باب لها؟
