فيلادلفيا نيوز
الرجال عناوين مراحل..وقد كان الشهيد وصفي التل في طليعة العناوين الكبيرة التي ضحت وعملت بجد واخلاص من اجل الوطن والقضية والناس.. ولتدليل على ذلك اجدني اتوقف من بين محطات عديده امام محطتين اثنتين سجّل (وصفي) خلالهما حضوراً مشهوداً، كما هي عادته وهو يمتطي صهوة الشجاعة والفروسية والاقدام وحسن التصرف..هذه الخصال التي اعتدنا ان نجدها مجتمعه بالكامل في اهاب (وصفي) وفي افياء عباءته الضافية!!
المحطة الاولى في بغداد في مطلع الستينات حين كان الشهيد وصفي التل سفيراً وباقتدار للمملكة الاردنيه الهاشميه لدى جمهورية العراق وبالتحديد اثناء حكم الرئيس الراحل عبدالكريم قاسم الذي شهدت فترة حكمه اضطرابات سياسية واسعه..فقد كان الرجل معروفاً بمزاجه الحاد وانفعاله الشديد دون ادنى سبب مع ما يستتبع ذلك من الفاظٍ نابية وكلام خارج عن المألوف!!
حاصله.. استدعى الرئيس قاسم في صبيحة احد الايام الى القصر الجمهوري السفراء العرب المعتمدين لدى العراق ومن بينهم وصفي التل..وبدون ادنى مقدمات بدأ بتوجيه صنوف الشتائم والكلام القاسي للاقطار العربيه وقادتها!! وعلى مسمع من السفراء العرب الذين ملأت عيونهم وقلوبهم الدهشه..وظل يعزف هذه النغمة النشاز ..وكان متوقعا ان يواصل نوبة الغضب ومخرجاتها من الكلام الجارح لولا انتفاضة السفير الاردني الشهيد وصفي التل الذي اعترض بشده ورفع يده باتجاه الرئيس قاسم طالباً الاذن بالكلام ثم انتصب (اخو علياء) بقامته العسكريه الممشوقه وقال بصوت ونبرة تقف على تخوم الغضب والحنق الشديد:
يا سيادة الرئيس ألهذا جمعتنا؟! هل جمعتنا لكي تكيل الشتائم لنا ولأوطاننا وقياداتنا العربيه؟! فقد كنا نتوقع منك بان تضعنا في صورة الاوضاع العربيه الراهنه وحال التضامن العربي والسبل الكفيله لجمع شمل الامه العربيه بدل كيل الشتائم والاهانات لاقطارنا العربيه وقياداتها!! وانا مضطر يا سيادة الرئيس والحالة هذه بأن اغادر قاعة الاجتماع فوراً!! لأنني لن استمر ابداً بحضور اجتماع يتم فيه شتم وطني ومليكي!! وهكذا كان.. فقد غادر القاعة غاضبا وسط ذهول السفراء العرب والرئيس عبدالكريم قاسم نفسه!!
وبالمناسبه فقد كان الشطط والتسرع والوقوع في مواطن الزلل من طباع الرئيس قاسم والتي كانت مثار تندر الجميع داخل العراق وخارجه!!
والثانيه كانت في الستينات ايضاً عندما قررت حكومة الولايات المتحده الامريكيه وقف امدادات القمح عن الاردن..وشكلت هذه الخطوة نقطة تحول جعلت وصفي التل يفكر بخطة واستراتيجية لاتتأثر بالتطورات الدوليه والهزات الاقليميه والمفاجآت غير المتوقعه خاصة وان الامر يتعلق بالأمن الغذائي وخبز الناس!!
وارتأى وضع مشروع عمل يتضمن تكتيكاً قومياً سريع المدى والمفعول.. واستراتيجيه وطنيه عمادها التعاون بين المزارعين والحكومه لما فيه مصلحة الوطن والناس.. ويساند التكتيك والاستراتيجيه آلية للتنفيذ تزاوج بين المصلحة الوطنيه والبعد القومي..وما من شك بأن وصفي خير من يتقن ويبدع في مجال المزاوجة بين البعدين الوطني والقومي .. وبعد اكتمال ملامح الخطه بسط وصفي امام جلالة الحسين طيب الله ثراه ابعادها ومراميها فباركها جلالته واكد دعمه لها بقوه.
وكانت الالتفاته الاولى على درب التنفيذ نحو سوريا الجاره والشقيقه لكن الامر كان اشبه بالمستحيل في ضوء السياسة الكيديه والمعاديه لمصلحة الاردن من قبل عبدالحميد السراج رئيس المكتب الثاني في الاقليم الشمالي (سوريا) والتي كانت قطراً من الجمهوريه العربيه المتحده آنذاك وادت هذه السياسة الفاشله من قبل السراج والذي كان الكل في الكل في سوريا الى انهاء الوحدة بين القطرين الشقيقين سوريا ومصر وحدوث الانفصال..ناهيك عن انها حطمت الاحلام الكبيره التي كانت تعتمل في قلوب عشاق الوحده من ابناء الامة العربيه – والعبد الفقير لله كاتب السطور احدهم- والذين كانو يرون في نجاح الوحدة بين سوريا ومصر الخطوة الاولى على طريق الوحدة العربيه الشامله!!
حاصله ..بعد انتهاء نفوذ السراج- الى غير رجعه- فقد اصبح المجال متاحاً للتنسيق مع السوريين..فاغتنم (وصفي) الفرصه واستثمر نفوذه والجاه الذي يحظى به لدى عدد من الشخصيات الفاعله وذات التأثير والقرار على الساحة السوريه وبذل جهودا اسفرت عن نتائج ايجابيه اذ بعد ايام معدودة تقاطرت الصهاريج والتريلات المحملة بالقمح السوري في طريقها الى الاردن وامتلأت عنابر الحكومة و “كواير” الناس من قمح الاشقاء السوريين.. وانتقل (وصفي) في الوقت ذاته الى تطبيق الاستراتيجية الوطنيه للامن الغذائي في الاردن..
فعقد اجتماعاً موسعاً ضم المزارعين والفلاحين وممثلي المنظمات التعاونيه وحثهم على ضرورة توسيع رقعة زراعة القمح..واستجاب المزارعون لنخوة (وصفي) مثلما استجابت بحول الله– السهول والبطاح والاراضي الزراعيه في ضفتي المملكه للنداء والجهد الصادق.. وحالفنا الحظ بموسم زراعي جيد لدرجة أن الاردن اصبح من الدول المصدره للقمح..وقمنا بتصدير الفائض عن الحاجه الى اشقائنا السوريين من قبيل رد الجميل للاشقاء اولاً وترجمة للانتماء القومي ثانياً..فامتلأت عنابر سوريا ومخازنها بالقمح الاردني في الوقت الذي كانت فيه بعض المواد الغذائيه مثل السكر وغيره توزع بالكوتا…وقد عشت انا العبد الفقير لله تلك الفتره عندما كنت طالباً في جامعة دمشق..وسمعت باذني ثناءاً على موقف الشقيق نحو الشقيق وقت الضيق!!
وفي الختام اقول: ايها الرمز الكبير..ايها الراحل الحي..ها انت يا وصفي تعيش بيننا من خلال استذكار انجازاتك ومواقفك الكبيره ..وسيرتك التي ترفع الرأس .. واجدني اردد مع امير الشعراء احمد شوقي ما قاله ذات يوم..
الناس صنفان: موتى في حياتهم
وآخرون ببطن الارض أحياء
طوبى ..لك أيها الراحل الحي..طوبى لك يا وصفي.. وسلام على روحك الطاهره