فيلادلفيا نيوز
آه يا أبا جاسم… آه يا عضيدي ! لقد كنت على موعد وإياك منذ أيام معدودة لكي تهاتفني
من مشفاك عندما يسمح ظرفك الصحي لكي أصلك بسرعة البرق !!
وبدل الهاتف الموعود جاءني نبأ رحيلك المفاجئ يا الغالي .. فامتلأ القلب حزناً ..
والوجدان وجعاً .. وضربت كفاً بكف وقلت : يا وجعي لقد رحل الرمز الوطني
والقومي الكبير .. ولا حول ولا قوة إلا بالله .
أيها القومي النبيل .. وابن العم معالي محمد فارس الطراونة .. أنا ما زلت في انتظار
هاتفك فأنت الوفي للوطن والأمة والناس .. وأنت الصادق الذي نشأ في بيئة
وطنية تتكئ على نقاء الصحراء وصدق شمسها.. وابن منطقة عينها اليمنى تكتحل
مع طالع شمس كل يوم ببطولات وأضرحة الصحابة الأبرار: جعفر بن أبي طالب
وزيد بن حارثة وعبدالله بن رواحة رضوان الله عليهم .. وعينها اليسرى على مرمى
رمشة جفن من تمثال البطل صلاح الدين الأيوبي الذي تتشرف الكرك – مدينة
وتاريخاٌ وناساٌ – باحتضانه وهو ما يزال بكامل هيبته يمتطي جواده ويشير بالسبابة
والسيف نحو الغرب حيث مهوى الفؤاد فلسطين العزيزة !
أما عن وجدان محيطك وناسك في مؤآب فإنهم يحفظون عن ظهر قلب سطور ومضمون مسلّة الملك المؤآبي المقدام ( ميشع ) التي دوّن من خلالها للتاريخ والدنيا انتصاره الباهر على المعتدين الصهاينة، أعداء الأمس واليوم وسيظلون اعداءنا إلى أن تتحرر فلسطين بالكامل !!
يا أبا جاسم.. يا ذا القامة العالية .. أنا ما زلت في انتظار اطلالتك يابن الفارس ..
فارس الاسم والسيرة..عمي الحاج فارس ابن فجيج الطراونة الذي ضحّى بأرضه من أجل تعليم أولاده.. وهذه شجاعة نادره خاصة وأنها تأتي في أوساط مجتمع ريفي تحمل الأرض رمزية خاصة في وجدانهم ..
وقد فعل والدك خيراً وصواباً حين استبدل الأرض بالفرسان القوميين.. والتراب بالإنسان المتعلم والمثقف.. وللأمانة فقد أصبحتم الوالد وأنتم مثلاٌ أعلى وقدوة صالحة في التضحية والفروسية والمبادئ النبيلة !
يا أبا جاسم .. يا حبيب فلسطين .. ما زلت في انتظار طيفك الشفيف يا ابن السيدة الفاضلة التي انتزعت ذات يوم قلادتها الذهبية ( المخنقة ) من جيدها أمام ناظريك وسلمتها إلى
والدك الكريم لكي تنضم قلادتها إلى أكياس الحنطة التي تبرع أبناء الطراونة وأشقاؤهم من الكرك وقلائد الذهب التي تبرعت بها بنات الطراونة ( الطرويات ) وشقيقاتهن ماجدات الكرك والتي تم ايداعها في منزل عمّنا الزعيم الوطني الكبير حسين باشا الطراونة ليصار إلى تسليمها إلى أشقائنا المجاهدين الثوار في فلسطين بقيادة الحاج امين الحسيني بعد أن تتحول هذه التبرعات إلى سلاح وذخيرة وزهاب ومدد إلى توأم الروح الأشقاء غربي النهر!
وبالمناسبة فقد حدثني المجاهد المرحوم الدكتور قاسم ملحس في نهاية السبعينات من
القرن الماضي عندما كنت مديراً لتحرير جريدة (الدستور) عن لحظة وصول المدد والسلاح
من الكرك (خشم العقاب) عبر لسان البحر الميت إلى الخليل ومنها إلى القدس. وقال ودموع الوفاء والتقدير تفيض من عينيه : لقد كنت على يمين زعيم المجاهدين الحاج أمين الحسيني عند وصول قوافل السلاح والمدد من الكرك إلى القدس!! وأضاف: لقد رأيت الندى ينهمر من عيني زعيم المجاهدين وهو يتسلم السلاح من أشقائه في الأردن !!
وتعرف أنت يا أبا جاسم مثلما أعرف أنا أن لسان حال أهل الكرك والأردن وشرفاء العرب
يؤكد بأنه لا حاجة بنا للذهب ما دامت فلسطين محتلة وأن فلسطين هي القلادة الغالية التي
تطوّق أعناق شرفاء أمتنا العربية من الماء إلى الماء !!
يا أبا جاسم .. أيها المناضل القومي الذي ما لانت له قناه رغم القهر والتعذيب .. ما زلت
بانتظار هاتفك يا من كنت خير ظهير وأوفى سندٍ يدعم لثغتي القومية الأولى .. هذه اللثغة التي
أصبحت مع الزمن قلماُ قومياُ منذوراُ للذود عن الحق .. وقول الحق .. وخدمة فلسطين
العزيزة والمبادئ القومية السامية وعلى رأسها الوحدة والحرية والخلاص من ربقة
الاحتلال الصهيوني البغيض!!
يا أبا جاسم .. يا ذا القامة الباسقة .. مازلت بانتظار طيفك الشفيف وأنا استذكر دارتك في
حارة الحباشنة بمدينة الكرك والتي كانت في حقبة الستينات من القرن الماضي تفيض
عصر كل جمعة بالقوميين والطيبين والمثقفين.. وكيف كنت أنت يا الغالي تدير بابتسامتك
المعهودة أجواء الحوار والنقاش القومي الهادف..وما زلت أحفظ القسمات الطيبة وأتفرس
الوجوه البهية بمعيتك كما الآن .. وها أنا ذا اتفقد الغوالي : فريد الحوراني وفايز الصياغ
ويعقوب زريقات وعوض الطراونة وصالح فارس ونائل المصاروة وسليمان الهواري ..
وها أنا ذا أقّبل وجناتهم الطاهرة.. واستميح العذر من الذين لم تسعفني الذاكرة في سرد
أسمائهم في هذا المقام!!
يا أبا جاسم .. يا ذا الهمة العالية .. أيها الوزير الزاهد بالمنصب .. ما زلت في انتظار هاتفك..
يا من كنت تترك سيارة الوزارة وتذهب إلى البيت بعد انتهاء الدوام بسيارتك الخاصة أو
التكسي في احايين كثيرة .. وبلغ بك الزهد أن اعتذرت بكل لطف عن قبول المنصب الوزاري
عندما عرض عليك من قبل أحد أصحاب الدولة وكانت نصيحتك له بأن يحرص على ترجمة
الولاية العامة بحذافيرها وان فعل ذلك فإنك أقرب اليه من حبل الوريد !! وكأنك يالغالي تترجم مقولة سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حيث يقول : (يا دنيا غُرّي غيري) !!
ويا من كانت استقالتك من الوزارة في التسعينات من القرن الماضي ترجمة لمبادئك القومية النبيلة أولاً واحترام الرأي الآخر في المقام الثاني !!
يا أبا جاسم يا صاحب الحضور البهي في مجال الفكر والعمل القومي .. يا أيها النائب الفذ
الذي شارك في انتخابك اليسار واليمين والوسط وكافة شرائح المجتمع وأوصلوك مبتهجين إلى القبة فكنت النائب الصادق الذي يجمع في إهابه الصيف والشتاء معاً .. فقد كنت داخل القبة متواضعا .. طيباً .. لين العريكة تجاه الفقراء والبسطاء والصادقين .. وكنت في المقابل شرساً وصعب المراس كالطود الشامخ في مواجهة الفساد والمفسدين والمنافقين والكذابين !!
يا أبا جاسم أيها الرمز الوطني المحبوب .. ما زلت في انتظار إطلالتك البهية يا من جمعت غلاوتك في قلوب الناس كافة أطياف المجتمع من موالين ومعارضين وحزبيين ومثقفين تحت سقف واحد .. حيث تنادوا لتقديم واجب العزاء في قرية أم حماط بالكرك وفي ديوان أبناء الكرك بعمّان .. وكانت مشاعر الجميع مزيجاً من الحزن لرحيلك والاعتزاز بمواقفك الوطنية والقومية النبيلة.
يا أبا جاسم .. أوجعنا رحيلك المفاجئ والذي لا نملك ازاءه إلا التذرع بالصبر والدعاء إلى العلي القدير بأن يدخلك جنات النعيم.
فسلام على روحك الطاهرة يا الغالي .. وسلام عليك في مثواك الأخير بدار المقر الخالدة بين يدي رحمن رحيم.
وسلام عليك يا ابن الأكرمين.