الجمعة , نوفمبر 22 2024 | 3:19 ص
الرئيسية / كتاب فيلادلفيا / سعود السويهري: رمضان روحٌ وريحان

سعود السويهري: رمضان روحٌ وريحان

فيلادلفيا نيوز

ننتظر على أحر من الجمر، ونترقب على أعتاب الشوق، ونتطلّع إلى رؤية هلال شهر رمضان، شهر الروحانيات، شهر الخيرات والبركات، شهر النفحات والرحمات، فيه ليلة خير من ألف شهر، ليلة تسمى ليلة القدر، تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، شهر القيام لمطلع الفجر، خير الشهور الذي قال عنه المولى تبارك وتعالى: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه”. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استقبالًا للشهر الكريم “أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم” (رواه النسائي وصححه الألباني).

ومن هذا المدخل المبهج يمكن الحديث عن هذا الشهر الفضيل بما يحدثه من تغيير على المستويات المختلفة، الدينية والاجتماعية والنفسية، وهي مسار حديثنا خلال هذه السطور القليلة، فشهر رمضان شهر اختبار وطاعة وتجنب للمعاصي، ويكفي المرء فيه شوقًا مانراه من مظاهر التوحد والتآلف والاصطفاف، والرؤية الجلية لتجمع المسلمين على هدف واحد كالصلاة، أو الذكر أو قراءة القرآن، حيث تضج المساجد بالمصلين والمهللين والمسبحين، وفي ذلك من الطاعات ما يُعلّم الرجوع والانقياد لله سبحانه، ونشير هنا إلى قراءة القرآن على وجه الخصوص؛ نظرًا لعظم الثواب؛ ولما يبعثه من سعادة للنفوس، واطمئنانًا لها، والبعد عن وساوس الشيطان والاضطرابات النفسية؛ فكلما اقترب العبد من ربه وخصوصًا في هذا الشهر الكريم كلما اقترب من تحقيق الصحة النفسية بدرجة أو بأخرى، إذ يُمنحنا هذا الزائر الكريم العديد من الفرص والفوائد التي تعود على صحتنا الجسدية والنفسية بكلّ خير، وذلك من خلال كونه فرصة للتأمل الروحي وإعادة تقوية العقيدة من جهة، وتمكيننا من تحسين نظامنا وعاداتنا الغذائية، الأمر الذي له جلّ التأثير على صحتنا النفسية والعقلية.

ولا غنى للنفس عن الترويح، ولاغنى لها عن التجديد، فالصوم عبادة تهدف إلى السمو وتربية الروح، وتقوية الإرادة والتعود على الصبر والتحمل، والأهم مراقبة الله عز وجل ومجاهدة النفس، فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبوهريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك” (رواه البخاري ومسلم).

ويُعوّل الشهر الفضيل على صيام القلب والجوارح قبل صيام البطن عن الطعام، فهو ترقية للنفس، ومناجاة وعلاقة سامية بين العبد وربه، يكون أثرها مراقبة الذات والتوجه نحو الحياة وتعزيز الروابط الاجتماعية، من خلال الشعور بالأُلفة والوحدة، وتحقيق التوافق النفسي والاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد، والتقليل من المرغوبية الاجتماعية والشعور بالآخرين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من فطّر صائما كان له مثل أجره من غير ان ينقص من أجر الصائم شيئا”. وفي ذلك دلالة اجتماعية فهو شهر يعوّدنا ويدربنا على إرجاء الإشباع الفوري لملذات النفس؛ بهدف تحقيق منفعة أكبر من الملذات الفورية، وهي أسلوب له من الفوائد في تعديل السلوكيات، وخصوصًا لدى الأطفال، وكلّ من يعاني من ضعف القدرة على الضبط الذاتي والاندفاعية والتهور.

ولشهر رمضان آثار إيجابية وفرصة عظيمة لتحقيق السواء النفسي والتوافق الذاتي والاجتماعي، والشعور بالإيجابية والمشاركة المجتمعية، والعفو عن المظالم والحقوق، والإيثار، فإذا حلّ شهر رمضان فإن الحق عزو جل يفسح المجال للعباد لكبح الشهوات، وتحقيق السكينة وإعادة الترتيبات والتوازن والوقاية من الأمراض النفسية، ويمنحنا فرصة للعودة إلى أنفسنا، وتدبّر أمورنا، وتقييمها، والتفكر في حالة الهوان التي وصل إليها الإنسان، والتعرف على عوامل الإرادة والرجوع والإنابة وإصلاح النفس، إذ يُمكننا رمضان من تعزيز قدرتنا على ضبط النفس الذي يؤثر إيجابًا على الصحة العقلية والنفسية، ويساهم في تحسين الحالة المزاجية وتقليل التوتر، ويكفينا استشهادًا هنا ما يمنحه رمضان من إرادة للمدخنين للإقلاع عن هذه العادة على الأقل خلال ساعات الصوم، والتقليل منه وقت الإفطار ليلاً، وفي ذلك عبرة لمن أراد العزم، وعقد النية على الخلاص من هذا الداء، ودليل على أن الإنسان لديه من القدرة على فعل ما يريد متى عزم النية باليقين وأعلن الحرب على التدخين.

وأخيرًا فلنتهيأ، ولنستشعر الأمل، ولنجدد النية والسريرة والطوية، ولنفرح وننشر رياحين الانتظار، ولنعزم على التغيير، ولنهييء النفس، ونستقبل رمضان كما كان يستقبله الصحابة قبلها بستةِ أشهر، ويودعونه بستةٍ مثلها، ولنتهيأ لعبادته، ولنعظم شعائره، ونبث في روح أطفالنا فرحته وقيمته، ولنجعل العام كله رمضان.

د. سعود ساطي السويهري

طباعة الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تنويه
• تتم مراجعة جميع التعليقات، وتنشر عند الموافقة عليها فقط.
• تحتفظ " فيلادلفيا نيوز" بحق حذف أي تعليق، ساعة تشاء، دون ذكر الأسباب.
• لن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة، أو خروجا عن الموضوع محل التعليق، او يشير ـ تصريحا أو تلويحا ـ إلى أسماء بعينها، او يتعرض لإثارة النعرات الطائفية أوالمذهبية او العرقية.
• التعليقات سفيرة مرسليها، وتعبر ـ ضرورة ـ عنهم وحدهم ليس غير، فكن خير مرسل، نكن خير ناشر.
HTML Snippets Powered By : XYZScripts.com