السبت , نوفمبر 16 2024 | 1:30 ص
الرئيسية / كتاب فيلادلفيا / سعود السويهري: الرضا وأهميته للصحة النفسية

سعود السويهري: الرضا وأهميته للصحة النفسية

فيلادلفيا نيوز

لا شك أن الرضا من القيم العظيمة، والمفاهيم الأساسية التي ينبغي للإنسان اكتسابها والحرص عليها بمضامينها وأبعادها المختلفة، ولكن الكثير منا لا يعي هذه القيمة وأبعادها جيدًا، وربما يتساءل عن كيفية أن يرضى العبدُ عن ربِّه وهو العبد المقصر الذي يسعى ويطمح ويرجو رضا الله عنه، والمقصود هنا هو الرضا عن أقدار الله وقسمته، سواءً أكانت هذه الأقدار خيرًا أم شرًا، وتقبلها بصدر رحب دون غضب أو حزن، وهنا يأتي السؤال الأهم الذي تطرحه هذه المقالة وهو: (هل الرضا وتقبّل الأقدار أياً كانت هو أمر لمصلحتنا دنيويًا ونفسيًا؟ أم أنه غاية دينية وثوابه هو ثواب أخروي فقط؟).

ومن هنا يمكننا القول إن الآيات القرانية والأحاديث النبوية التي تكلمت عن الرضا وثوابه الكبير كثيرة جداً، لا تتسع لها عشرات المقالات، وجميعها تحثنا على الرضا بما قسمه الله لنا؛ لنيل الأجر والثواب العظيم، وتؤكد أن له أثرًا جميلًا لا يقتصر على الآخرة فقط، بل يمتدد ليشمل حياتنا الدنيا، ويؤثر على سعادتنا بشكل مباشر، ولعلّنا نستشهد هنا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ. فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالُوا: يَا رَبِّ! وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا}، ولكن ما المقصود بأثره في الدنيا؟ هل المقصود به تأثيره على الصحة النفسية للإنسان؟

فالرضا هو مصدر السعادة من وجهة نظر بعض العلماء النفسيين والاجتماعيين، وهو ما تجده في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: {عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له}، وقد فرّق العلماء بين الصبر والرضا، فالصبر ربما يحتمل أمرين الأول صبر بسخط وهذا يؤدي إلى الشعور بالسخط والحزن والغضب أحيانًا، والثاني صبر برضا وقبول وهو الذي يؤدي إلى الشعور بالراحة والسعادة والسكينة، والرضا عند علماء الدين كما قال ابن القيم “الرضا باب الله الأعظم، ومستراح العابدين، وجنة الدنيا، من لم يدخله في الدنيا لم يتذوقه في الآخرة”، فالرضا مقترن بالسعادة وهو شعور اكتشفه الإنسان منذ القدم بفطرته السجية من قبل أن يعرف الكتب والنظريات، وجاء قديماً في قصائد العرب الحديث عن الرضا ولكن بمسميات آخرى فتجده يتجلى في قصائدهم حين يمتدحون الصبر ويعتبرونه صفة من صفات الشجاعة وتجده أيضاً في ذمهم للجزع واعتباره نقص للمروءة والشجاعة، فتجد ذلك في قول أحدهم لامرؤ القيس: “لا تهلك من فرط الحزن وشدة الجزع وتجمل بالصبر وأظهر للناس خلاف ما في قلبك من الحزن الجزع”، وكذلك تجده في قول عنترة بن شداد: “إنما الشجاعة صبر ساعة”.

وبحسب العديد من أخصائي الصحة النفسية فإن السبب الرئيس لجميع الأمراض النفسية هو الرفض وعدم قبول الواقع، وبمعنى أوضح فإن الشعور بالخوف والتوتر والقلق سببه رفض الأحداث التي نتخوّف من وقوعها في المستقبل ونتمنى عدم حدوثها، والشعور بالحزن سببه عدم تقبل ما حدث لنا في الماضي من أحداث، أو عدم قبول الواقع الحالي الذي نحياه، وقد انتشرت الأمراض النفسية في عالمنا المعاصر بشكل كبير وأصبحنا نتفاجىء بشباب في مقتبل العمر يشتكون من الشعور بالملل واليأس والحزن؛ رغم أنهم مازالوا في مرحلة الربيع من عمرهم التي هي أجمل مراحل عمر الإنسان حيث البهجة والإقبال على الحياة، وأرجع العلماء هذه الظاهرة إلى عدم القبول بالواقع الذي يحياه هؤلاء الشباب وشعورهم بالسخط تجاه أوضاعهم وظروفهم المادية والاجتماعية، ومن هذا المنطلق وبناء على تحديد أسباب المشكلة، يمكن استنتاج حل المشكلة، وبذلك يكون الرضا مفتاحًا لتجاوز العديد من المشكلات النفسية، فسواءً أكان اسمه بالنسبة لعلماء الدين “الرضا”، أو بالنسبة لعلماء علم النفس والاجتماع “القبول”؛ فالمعنى في النهاية واحد، وهو أن القبول والرضا بما قسمه الله لنا راحة لنا في الدنيا والآخرة، ولهذا تجد الجميع أجمع على أهمية الرضا في تحسين الصحة النفسية للإنسان ولكن كل من منطلق تخصصه ومجاله.

ومن أبرز الآثار النفسية للرضا على صحة الإنسان هو أنه يمنحنا القدرة على رصد الإيجابيات في أحلك وأصعب الأوقات، ويجعلنا أكثر تقديرًا للنعم التي منّ الله علينا بها، وبالتالي فإن الشخص الراضي، هو شخص قادر على التركيز دائمًا على النصف الممتلئ من الكوب؛ وإن أهم وأجمل شعور يمنحه الرضا للإنسان هو الراحة والطمأنينة الذي تنتج عن رضا الإنسان بقسمة الله له، فالرضا يمنح الإنسان شعور بالإطمنان والسكينة يعطيه نظرة تفاؤلية للحياة، ويجعله يستمتع بالنعم الأخرى الكثيرة التي منحها الله إياها؛ فيخلع النظارة السوداء التي تحول بينه وبين إنزاله الهموم والأحزان منازلها دون تهويل. وفي الختام يمكننا أن نؤكد بأنّ الرضا هو مفتاح الحياة  السعيدة.

بقلم أخصائي نفسي أول/ سعود ساطي السويهري

طباعة الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تنويه
• تتم مراجعة جميع التعليقات، وتنشر عند الموافقة عليها فقط.
• تحتفظ " فيلادلفيا نيوز" بحق حذف أي تعليق، ساعة تشاء، دون ذكر الأسباب.
• لن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة، أو خروجا عن الموضوع محل التعليق، او يشير ـ تصريحا أو تلويحا ـ إلى أسماء بعينها، او يتعرض لإثارة النعرات الطائفية أوالمذهبية او العرقية.
• التعليقات سفيرة مرسليها، وتعبر ـ ضرورة ـ عنهم وحدهم ليس غير، فكن خير مرسل، نكن خير ناشر.
HTML Snippets Powered By : XYZScripts.com