فيلادلفيا نيوز
منذ عام تقريبا حين غيرت مكان سكناي فكانت في طريقي إلى عملي إشارة ضوئية لابد أن أمر بها كل صباح أينما كانت وجهتي , فكانت ما يقارب 365 صباح أمر بتلك الإشارة وأشاهد بائع الجريدة السبعيني يمدها على كل مركبة تتوقف وهو يتمتم بالدعاء ويقترب من السائقين على إستحياء فإذا لمح ما يشير إلى عدم إكتراث السائق به وبما يحمل يخطو مبتعدا وهو يدعو أيضا لذلك الغير مكترث أو راغب بالإلتفات إليه بالخير والبركة .
ذلك السبعيني الذي يوزع جريدة الدستور الأردنية كان له دستوره الخاص الذي لا يخالفه أبدا فهو في كل صباح مزروع عند تلك الإشارة باكرا بكل أدب ولا يتوقف لسانه أن يلهج بالدعاء لكل المارة وهو ايضا البائع الفقير والموزع لتلك الجريدة الذي يحرص كل الحرص على أن لا يزعج من يعرض عليهم بضاعته التي يعتقد البعض أنها مجرد جريدة وأوراق كتبت فيها أخبار وهي في الحقيقة أثمن بضاعة , فهو بهيئته وملامحه التي شكلتها أصعب الأيام وأثقل السنين وفي هذا العمر بضاعته درس في الصبر والمثابرة والإيمان والشرف وكسب الرزق من طرق الحلال مهما كانت تلك الطريق شاقة ووعرة وربما قاتلة .
وبضاعته أيضا ذلك القلب الذي يتسع للدنيا فهو قلب الأب والزوج ورب الأسرة الذي يصارع الأيام ويصارع الألام ويقارع كل قاسي من الظروف ليؤمن قوت عياله , وهي أيضا إيمان وخلق وأدب لم تنزعه قسوة الأيام والناس الذي ينظرون لمثله بدونية مقيتة وقد يتجاوزون النظرة إلى زجره أو ربما أكثر من ذلك ولكنه يدعو بقلب سليم لكل من أخذ منه الجريدة أو لم يأخذ .
بضاعته أيضا هي إهتمامه بأن يضع جريدة الدستور في كل مركبة تمر به سواء تلقى ثمنها أم لأنه بالتأكيد من الجيل الذي يقدر عاليا ما هي الجريدة .
بائع الجريد السبعيني المواضب كل صباح على الوقوف على تلك الإشارة قد مات أول أمس ليلا -ربما- أو فجرا لأجد إبنه الأصغر في صباح رحيله إلى الرفيق الأعلى يقف مكانه يبيع الجريدة والدموع في عينيه ليخبرني عند سؤالي عند العجوز وبصوت مرتجف “أنا إبنه ووالدي توفى البارحة ” فأختلط علي الأمر من رجفة الصوت فظننت المتوفي والدته حتى تحققت اليوم من الأمر حين كررت السؤال صباح اليوم فتيقنت أن بائع الجريدة العجوز هو المتوفي _رحمه الله وغفر له وأسكنه الجنة -.
وأهم بضاعة عنده -رحمه الله – قد إشترى بها آخرته وكانت خاتمة أعماله أن وقوف إبنه في صباح يوم وفاته وفي البرد القارص وبالضرورة قبل موعد الدفن -ربما -ليواصل عن والده المتوفي بيع الجريدة على نفس الإشارة لا شك أنه تنفيذ لوصية أوصى بها ولعهد قطعه على نفسه أن يؤمن من الحلال تلك القروش يوميا لهذه الأسرة الفقيرة والعفيفة ,فكان وقوف الإبن وحلوله بائعا للجريدة عن والده المتوفي وكانت الدوع التي سالت على وجنتي البائع الولد وارث هذه المهمة عند والده العجوز الصابر المحتسب _رحمه الله -وكانت مشاعر الفقد والغصة مع الحزن يلفها الصبر والإيمان والجلد والصمود تتجسد على هيئة ذلك الشاب بائع الجريدة في كل صباح على إشارة (السويلميين ) وستمر ألاف المركبات ومن كل الإتجاهات تتوقف للإشارة الحمراء وتعبر مع الخضراء ولكن أحدا لن يتوقف عند قصة هذا الشاب بائع الجريدة الجديد ولن يلحظ أحد أيضا أن بائع الجريدة على هذه الإشارة قد أصبح شابا بديلا عن ذلك العجوز السبعيني وربما إعتقد البعض أن الجديد قد إشترى الموقع من القديم , وستمر المركبات يوميا والغالبية لن تلحظ الجريدة وبائعها وإن فعلت فلن يفكروا إلا بأنهم مروا وشاهدوا لقطة لمجرد شخص يبيع الجريدة وسيصفونه بالمتسول .
رحمك الله يا بائع الجريدة الراحل فقد ربحت -بإذن الله- تجارتك وتجارة أبنائك ومن ينفذون وصيتك .
نسأل الله لجميع موتانا الرحمة والمغفرة ولنلتفت للحظات لكل بائع جريدة أو علكة أو مناديل ورقية أو أي من الأشياء بخسة الثمن في شوارعنا ثم بعد ذلك نرفع أيادينا للسماء لنحمد الله أولا ثم ندعوه -عز وجل – أن يرحمنا ,فمن لا يرحم من هم ثله في الأرض لا تسمع له دعوة إذا ما طلب الرحمة من السماء .
آه …ما أكثر أوجاعك ياوطني لكن أبنائك- من أحبك منهم فعلا لا زيفا- لا يصرخون .
أبو عناد …رايق المجالي .