السبت , يونيو 21 2025 | 3:28 م
الرئيسية / stop /  أ.د مخلد سليمان الطراونه يكتب : الحروب السيبرانية: المعارك الخفية التي تعيد تعريف مفهوم الصراع في العصر الرقمي

 أ.د مخلد سليمان الطراونه يكتب : الحروب السيبرانية: المعارك الخفية التي تعيد تعريف مفهوم الصراع في العصر الرقمي

فيلادلفيا نيوز

في خضم التحول الرقمي المتسارع الذي يشهده عالمنا المعاصر، برز نمط جديد من الصراعات يتحدى المفاهيم التقليدية للحرب والمواجهة العسكرية. فلم تعد ساحات القتال تقتصر على البر والبحر والجو، بل امتدت إلى الفضاء الإلكتروني الذي أصبح مسرحًا لمعارك غير مرئية لكن آثارها قد تكون أكثر تدميرًا من الحروب التقليدية.
تشكل الحروب السيبرانية تحديًا وجوديًا للدول في القرن الحادي والعشرين، حيث تحولت من مجرد تهديد نظري إلى خطر داهم يمس كيان الدول وأمنها القومي. فبينما كانت القوة العسكرية تقاس سابقًا بعدد الدبابات والجنود والطائرات، أصبحت اليوم تُقاس بقدرات برمجية وخبرات تقنية تتربص في الظاهرية الرقمية. هذا التحول الجذري في مفهوم الصراع يستدعي إعادة نظر جذرية في استراتيجيات الدفاع والأمن القومي.
تتنوع أشكال هذه الحروب وتتطور باستمرار، بدءًا من الهجمات التخريبية التي تستهدف البنى التحتية الحيوية مثل محطات الطاقة وشبكات المياه وأنظمة النقل، وصولاً إلى عمليات التجسس الإلكتروني المتطورة التي تهدف لسرقة الأسرار الوطنية والصناعية. ولا ننسى حروب المعلومات التي تستخدم الفضاء الإلكتروني لنشر الشائعات والتضليل الإعلامي، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي للدول.
لقد شهد العقد الماضي أمثلة صارخة على فاعلية هذه الأسلحة الجديدة. فالهجوم الإسرائيلي باستخدام فيروس ستوكسنت الذي عطّل أجهزة الطرد المركزي الإيرانية عام 2010، لم يكن مجرد عملية تخريبية عادية، بل كان نقطة تحول في مفهوم الصراع الدولي. كما أن هجمات الفدية التي شلت أنظمة المستشفيات البريطانية عام 2017، أو تلك التي أصابت أنابيب النفط الأمريكية عام 2021، أثبتت أن التهديد السيبراني يمكن أن يكون أكثر فتكًا من العديد من الأسلحة التقليدية.
أمام هذا الواقع الجديد، سارعت القوى العالمية إلى تأسيس وحدات عسكرية سيبرانية متخصصة. فالولايات المتحدة الأمريكية أسست قيادة الفضاء السيبراني (USCYBERCOM) كفرع مستقل ضمن هيكلها العسكري، بينما تمتلك روسيا وحدات GRU السيبرانية التي يُشتبه في تورطها بالعديد من الهجمات الدولية. أما الصين، فقد طورت نظرية “حرب الشبكات” كجزء أساسي من استراتيجيتها العسكرية الشاملة، في حين تمتلك إسرائيل وحدة 8200 الشهيرة التي تعتبر من أكثر الوحدات السيبرانية تقدمًا في العالم.
لكن التهديد السيبراني لا يقتصر على الصراعات بين الدول، بل يتعداه إلى الجماعات الإرهابية والعصابات الإجرامية المنظمة التي تمتلك الآن قدرات سيبرانية متطورة. كما أن الخط الفاصل بين الحرب والسلم أصبح أكثر ضبابية في الفضاء الإلكتروني، حيث يمكن لدولة ما أن تشن هجمات خفية ومستمرة دون إعلان رسمي للحرب، مما يخلق حالة من “الحرب الهجينة” التي تجمع بين الوسائل التقليدية والرقمية.
في مواجهة هذا التهديد المتعدد الأوجه، تتسابق الدول لتعزيز دفاعاتها السيبرانية عبر مستويات متعددة. فمن الناحية التقنية، يتم تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لاكتشاف الهجمات والتصدي لها تلقائيًا. أما تشريعيًا، فإن الدول تسن قوانين صارمة لحماية البنية التحتية الرقمية الحرجة، مع فرض معايير أمنية صارمة على القطاعات الحيوية. ولا ننسى الجانب البشري، حيث أصبح تدريب الكوادر المتخصصة واستقطاب الخبراء في مجال الأمن السيبراني أولوية قصوى للحكومات.
يتوقع الخبراء أن تشهد الحروب السيبرانية تطورًا نوعيًا في المستقبل القريب مع تقدم تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والحوسبة الكمية. ففي غضون سنوات قليلة، قد نشهد هجمات قادرة على تعطيل المدن الذكية بالكامل، أو التلاعب بأسواق المال العالمية بشكل غير مسبوق، أو حتى التأثير على العمليات الديمقراطية عبر الانتخابات الذكية. كما أن تطوير أسلحة سيبرانية قادرة على استهداف الأنظمة العسكرية التقليدية قد يغير بشكل جذري موازين القوى العالمية.
ختامًا، لم تعد الحروب السيبرانية مجرد سيناريوهات خيالية تروى في أفلام الخيال العلمي، بل أصبحت واقعًا ملموسًا يعيد تعريف مفهوم الصراع في العصر الرقمي. وفي حين أن التكنولوجيا وفرت للإنسان وسائل غير مسبوقة للرفاهية والتقدم، فإنها أيضًا زودته بأسلحة جديدة أكثر تعقيدًا وخطورة. وهذا ما يجعل تطوير استراتيجيات دفاعية متكاملة، وبناء القدرات الوطنية في مجال الأمن السيبراني، أحد أهم التحديات التي تواجه صانعي القرار في عالمنا المعاصر. ففي عصر تحولت فيه البيانات إلى نفط جديد، والشفرات البرمجية إلى أسلحة فتاكة، أصبح الفضاء الإلكتروني ساحة معركة لا تقل أهمية عن ساحات القتال التقليدية.

طباعة الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تنويه
• تتم مراجعة جميع التعليقات، وتنشر عند الموافقة عليها فقط.
• تحتفظ " فيلادلفيا نيوز" بحق حذف أي تعليق، ساعة تشاء، دون ذكر الأسباب.
• لن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة، أو خروجا عن الموضوع محل التعليق، او يشير ـ تصريحا أو تلويحا ـ إلى أسماء بعينها، او يتعرض لإثارة النعرات الطائفية أوالمذهبية او العرقية.
• التعليقات سفيرة مرسليها، وتعبر ـ ضرورة ـ عنهم وحدهم ليس غير، فكن خير مرسل، نكن خير ناشر.
HTML Snippets Powered By : XYZScripts.com