فيلادلفيا نيوز
لم تعد غزة مجرد جغرافيا محاصرة؛ بل تحولت إلى تهتك عميق في الضمير الإنساني، فمنذ عامين لم تتوقف أصوات الانفجارات، ومشاهد الدمار، وأكوام الركام التي غطت المكان، بينما رائحة الموت تسكن الهواء، في هذا المشهد القاتم، يتجاور «الخراب مع الجوع، حيث الأمعاء الخاوية تصرخ طلباً لقطعة خبز»، أي احتمال، فيما يقف العالم «المتحضر» صامتاً أمام هذا المشهد المأساوي، وكأن نيران قوانين الإنسانية أُطفئت عمداً.
لقد اعتدنا في التاريخ أن تكون المجاعة أثراً جانبياً للحروب، غير أنّ ما يجري في غزة تجاوز كل الأعراف: التجويع صار سلاحاً، وهدفاً رئيساً من أهداف الحرب، وأداة معلنة للإخضاع والكسر، وهذا انتهاك صريح لكل القوانين الدولية التي وُضعت لتقييد المتحاربين ومنعهم من استخدام الغذاء سلاحاً، غير أن إسرائيل ارتكبت هذه الجريمة وهي محمية من العقاب بعصاها السحرية: الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تكتفِ بتوفير الغطاء، بل شاركت في فرض الحصار وتبرير التجويع، لتتحول من حامية إسرائيل إلى شريك مباشر في الجريمة، يثبت ذلك انه حين بدأ العالم يقرّ بأن ما يجري في غزة هو «مجاعة مفتعلة»، هبّت واشنطن لتقلب السردية: رفضت التوصيف، وألصقت التهمة بأطراف فلسطينية داخلية، بل ذهبت أبعد من ذلك حين أوعزت لأدواتها بتنظيم حملات تضليل تتهم دولًا عربية بأنها سبب التجويع، هكذا تحوّل الخطاب من حماية الضحايا إلى تجريمهم، في واحدة من أكثر صور التواطؤ السياسي انحطاطاً.
أما المشهد القانوني فهو أكثر قتامة: فبينما تنتظر آلاف الشاحنات المحملة بالمساعدات على بوابات غزة، يموت الناس جوعاً على بُعد عشرات الأمتار منها، مشهد يلخص الانهيار الأخلاقي للنظام الدولي، ويكشف حجم الانحياز الأعمى للأقوياء، وتواطؤ المؤسسات الأممية التي لا تملك سوى التعبير عن «القلق» أو «الأسف».
المجاعة في غزة لم تعد شأناً فلسطينياً إسرائيلياً أو حتى عربياً، ولا حتى حرباً عقابية ضد حركة حماس، بل تحولت إلى ورقة ضغط في معادلة إقليمية ودولية، إنها قضية عالمية تُهدد بانفجار إقليمي واسع، الرهان الإسرائيلي الأميركي على أن صور الموت والجوع ستتحول في الوعي العربي إلى مشهد عادي هو رهان فاشل، فهذه المنطقة التي تُخفي تحت هدوئها صفائح بركانية هائلة، والتي طالما فاجأت العالم بانفجارات غيّرت قواعد اللعبة.
إن استمرار الميوعة الدولية في التعاطي مع المأساة، والخضوع الكامل للرغبات الأميركية والإسرائيلية، لا يهدد غزة وحدها، بل ينسف استقرار المنطقة بأسرها، وهو أيضًا يكرس وهماً أميركياً وإسرائيلياً بأن القوة وحدها كفيلة بفرض الاستقرار، التاريخ يقول غير ذلك: المنطقة قادرة على الصبر والاحتمال، لكنها أيضًا قادرة على قلب الطاولة في لحظة.
وهنا يبرز السؤال الأشد إلحاحاً؛ ماذا علينا أن نفعل لإنقاذ غزة؟ كيف يمكن للدول العربية أن توظف ثقلها السياسي والاقتصادي لفرض دخول المساعدات، الواقع يشير إلى أنه بات ملحاً أن تربط الدول العربية علاقاتها السياسية والاقتصادية الطبيعية مع الدول المؤثرة، بدخول المساعدات إلى غزة، ومطالبة هذه الدول باحترام الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني، لقد أصبح الأمر ملحاً لكسر احتكار هذا الملف من قبل الولايات المتحدة الأميركية، ويجب الدفع به إلى مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، لاتخاذ خطوات ملزمة تعاقب من يستخدم الغذاء سلاحاً ضد المدنيين.
فغزة اليوم تتحمل العبء الأكبر من موت ودمار وتجويع، لكن شظايا هذه المأساة مرشحة لأن تصيب الإقليم كله، وبينما تستمر إسرائيل والولايات المتحدة في إدارة «كرنفال جنائزي» من القتل والجوع، تبقى المؤسسات الدولية عاجزة، مكتفية ببيانات الأسى، غير أن الحقيقة تفرض نفسها: غزة ليست معركة على الخبز وحده، بل اختبار لإنسانية العالم، ومؤشر على ما إذا كان القانون الدولي ما يزال صالحاً للحياة، أم أنه قد دُفن في ركام غزة، ما سيبقيه موشحاً بالخزي والعار إلى الأبد المنظور.
