فيلادلفيا نيوز
مع الأخذ بعين الاعتبار التطورات الاستراتيجية التي تشهدها ساحات الصراع في سورية والعراق؛ إلى جانب تحولات أخرى، فإن أحد أبرز استنتاجات المرحلة الراهنة أننا نقف أمام نهاية جيل من حركات وتنظيمات الإسلام السياسي المتطرفة والأكثر عنفا، وهذا التحول الكبير يقود إلى مراجعات استراتيجية مهمة، أبرزها البدء بتقييم نتائج “الحرب على الإرهاب” والخروج من شروطها وما خلفتها من ظروف وتداعيات وآثار.
إن فكرة إطالة أمد الحرب العسكرية على الإرهاب تعد أخطر فكرة تخدم نموذج الدولة الظلامية وما قد ينسحب عليها من نماذج لكيانات افتراضية، وتجعل هذه الحرب أخطر من الإرهاب الذي أسس لها؛ لأن الحرب الطويلة التي وعدت المنطقة بها هي مفرخة حقيقية للإرهابيين. فالمزيد من القتل والدمار والفقدان، سوف يراكم تحولات اجتماعية وثقافية خطيرة، تخلق مجتمعات أكثر نزوعا لإنتاج المزيد من المتطرفين، ومجتمعات تستنزف وتصبح أكثر قدرة على إنتاج الباحثين عن مصير آخر، من خلال وهم السيطرة على المصير بالقوة والعنف.
في مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي، تصاب الجماعات باختلالات تجعل الأوهام والخرافة جزءا أساسيا من نظام إنتاج السعادة والتوازن العاطفي؛ فلطالما كانت الأوهام هي سر السعادة، وكل من يحاول التشكيك في هذه الأوهام أو كشف زيفها، سوف يعاقب ويقاتل. كان المفكر الإنجليزي فرانسيس بيكون يرى أن المجتمعات تقع في مراحل تطورها في سلسلة من الأوهام؛ أهمها “أوهام الكهف”، تلك التي تجعل الفرد ينظر إلى العالم من كهفه الخاص أو زاويته الخاصّة التي شكلتها تنشئته الاجتماعية وتربيته وثقافته. ثم “أوهام المسرح”، أي الأخطاء المعرفية؛ من معتقدات راسخة ومبادئ مغلوطة أو إعادة تفسير للمعتقدات، التي شكلت مع الزمن قناعات راسخة أقامت الجماعة عليها البراهين، ما جعلها غرسا اجتماعيا يصعب اقتلاعه، ولها سلطة وقوة رغم أنها محض وهم اجتماعي. وهذا النوع من الأوهام يميل إلى الاستعراض والاشتباك. نأتي بهذا للتدليل على أن استمرار الظروف الثقافية والاقتصادية والاجتماعية ذاتها قابل لإعادة إنتاج نماذج هذه التنظيمات.
نحن نخاف مما يحدث وينسب إلى الإسلام، أكثر مما يخاف الغرب منه. نخاف من هذه الأجيال الجديدة التي تغذي المذبحة بأجسادها؛ نخاف من فضاء الأوهام الذي يلفنا؛ نخاف من هذه الحرب التي لا تريد أن يموت العدو ولا تفرخ إلا المزيد من الإرهابيين.
أسوأ أنواع الحروب هي تلك الحروب الصفرية؛ أي حروب الاستنزاف الداخلية القائمة على الاقتتال الداخلي بين فصائل وقوى محلية وتدار إقليميا أو دوليا، حيث شهد النصف الثاني من القرن العشرين عشرات الأمثلة على هذه الحروب الكارثية التي لم تترك إلا الكوارث التي ما تزال تفرض ظلالها على واقع ومستقبل تلك الشعوب.
ما تزال الخطة البديلة غير موجودة لمواجهة عودة التطرف والإرهاب بقوة، وعلى أحسن تقدير غير ناضجة، مع استمرار تراكم أنماط مباغتة من أزمات الاختلالات السياسية والاستراتيجية في المنطقة، وأوضاع اقتصادية وتنموية داخلية هشة، على كل الأحوال يبدو أن المنطقة استهلكت كل مبررات الحرب على الإرهاب وإطالة أمد هذه الحرب أكثر من ذلك يعني الوقوع في لعبة إعادة إنتاج الإرهاب مجددا.