فيلادلفيا نيوز
باتت اللوحة الثقافية والفنية والأدبية في أيامنا هذه في حالة يُرثى لها من الإهمال والتقليل.. فأصبحت التراكمات الكبيرة من هذا الإرث التراثي العظيم والأصيل من الفن والأدب والفلكلور والثقافة في حالة من الخطر والتهديد، وذلك كنتيجة لتدهور الذائقة الفنية والأدبية والفكرية التي باتت في حالة من الإضمحلال العام، والتقهقر وقد يؤدي بها هذا الإنعاش القاتل إلى الفناء تماماً.. فعند غياب المعنى تظهر الماديات الإستهلاكية، وعند تلاشي الروح الثقافية تظهر أشلاء الجزئيات الفرعية فذابت المتعة والرونق في استمزاج التذوق إلى فوضى من أبجديات التقليل والتزييف والتعرية.. فجيل ما بعد الحداثة -كما أعتقد- لديه ردود فعل سلبية تجاه كل ما هو قديم وأصيل وجميل، بل هناك مقاومة خفية لأي صلة بكل هذا الإنتاج الضخم من مخزون هذا التراكم الحضاري الكبير.. فبعد الإعتياد على اللهجات السقيمة تم رفض اللغة الرصينة، وبدل الفصحى صارت العامية، وبدل القصيدة الموزونة انتشرت الشعبوية، ومع تنميط فن الشعبيات والمهرجانات تم رفض رموز الفن الجميل، والغناء العليل، والأدب المفعم بنبض الأخلاقيات..
وهذا ما نشهده اليوم في دلائل ما يحدث في بنيوية مؤسساتنا التعليمية ومناهجنا الدراسية، وكتبنا العلمية فرحلت كلمات جبران في فوضى الطبيعة، وغادرت قصائد المتنبي في باخرة النسيان، ونامت روايات طه حسين ومحفوظ والسباعي في جوانب مكتبات عتيقة، وكتب مركونة على أرفرف قديمة..
جيلنا اليوم رافض لكل ذلك، غير متذوق لذلك المحيط العريض من العوالم الخفية التي حملتنا معها مرارا وتكرار، وطافت بنا إلى جزر من الجمال الخلاب لكنها لم تحمل أبنائنا معها.. بل انزوا على طرقات الوسائط الإلكترونية ليبحروا في “هبل” التيك توك، وألوان “الأنيستا” وسواحل “سناب شات” لتقدم لهم وجبات جاهزة سريعة وعصية على الهضم فيصابو بعدها بتخمة من العودة إلى الوراء والتبلد والجنون..
أصبح عالم رامي والسنباطي وعبد الوهاب وبليغ والموجي والقصبجي وحليم وفريد صنعة من الأبيض والأسود لا تنافس في ذائقة الألوان، وترامت كلثوميات الست في بعض المقاهي القديمة، والفيروزيات مع الرحابنة لمحة في طيف صباح عابس.. وهكذا دواليك نمضي ببعض إحساسنا المرهف القديم لنتوق لبعض عشقنا المحمل بنبض حياة حقيقية، بينما تهافت شبابنا في هذا العالم الأصم الجاف بلا متعة ولا رونق ولا نسيم عليل يطيب لحظاتهم وآمالهم ووجدانهم.. فالذوق إحساس بكل ما مضى، وبكل ما يأتي، وهو إيمان جازم بجماليات اللوحة بكل ما تفيض به من معنى وجمال..
وفي الختام.. لابد من إعادة البوصلة إلى الوجهة، وتشكيل المعنى من الموروث، وإعادة ترميم هذه الجدلية في العلاقة بما يعيد التوازن لنا ولهم، وبناء جسر من التفاعل لنلتقي عليه من جديد بفكر جديد ولكنه أصيل، خلاق لكنه منا، إبداعي بشرط ان نكون جزء منه لا عليه.. واختم بالقول كما قال أسامة أنور عكاشة في رائعته “أرابيسك”:
“عشان نعرف إحنا عايزين إيه لازم نعرف إحنا مين”.
دمتم بود كما أنتم لا كما أرادوا لكم أن تكونوا…
د. إبراهيم العدرة
الجامعة الأردنية
كلية الآداب
قسم العمل الإجتماعي
الجمعة ٢٢-٧-٢٠٢٢