فيلادلفيا نيوز
أصبحت العلامة والرمز المرافق لها في سلم درجات الجامعات وبعض المدارس هو المعيار الأساسي للحكم والمرجع والعمل.. بعيداً عن مدى مصداقية وشفافية هذه العلامة فأصبحت هي طريقة الرصد والوصف بسؤال الطالب: (كم جبت؟) أو (كم حطّلك؟) أو (شو علامتك؟) وهكذا..
فأبنائنا الطلبة اليوم مأسورون في حدود هذه العلامة الرمزية بعيداً عن مدلولها ومعناها.. فلا وجود للنوع أو الكيفية في هذه المنظومة خاصةً مع التركيز على الكم لا على النوع.. وهنا تلاشت روح العلم، والتعلم الحقيقة، والجوهر الذي قامت عليه العلامة بالأصل فينشأ الصراع الضمني المستتر الذي يدور في أروقة الجامعات، وزوايا الكليات، وجوانب المكاتب على مدى نزاهة ومصداقية وجودة وشفافية هذه الدرجات، وما يحيط بها من سياق فكري وثقافي واجتماعي وأخلاقي، فكل المطالبات العامة من الطلبة في قطع أكبر عدد من الساعات، والنجاح السريع، والمعدل المرتفع القائم على فقاعة هذه العلامة بعيداً عن اكتساب العلم الحقيقي، أو المعرفة المتينة، أو الممارسة المتقنة، أو حتى التمكن من المعلومات الأساسية لأي تخصص أو مجال من قبل المتعلم.. فالمهم المعدل والأهم الشهادة والتي تعطي لهذا الطالب أو ذاك كرت الصلاحية لممارسة هذا العلم، أو العمل، أو التدريب، أو للكثير منهم حق الترقي أو التقدم في السلم الوظيفي، أو المزيد من الحوافز رغم أنهُ في واقع الأمر بعيداً بمسافات طويلة عن هذه الدرجة ولا يستحقها في الأصل وذلك نتيجة لعوامل كثيرة أوصلته لهذه النتيجة.. وحصل عليها.
فالأستاذ الجامعي الحريص على العلم والمعرفة والذي لا يُحصل الطلبة عندهُ على تلك العلامة أصبح عملة نادرة لا يجد من يتهافتون عليه للتسجيل أو الإقبال ومحاضراته شبه خاوية في القاعات لأنهُ لم يعطي هذه العلامة (يرشها) للمتعطشين لها حتى لا تعطيهم قناعة زائفة بقدرتهم وهم في واقع الأمر لا يستحقونها، ولم يبذلوا جهداً حقيقياً للوصول إليها بل على العكس أصبح المُلام والحنبلي والقديم والمتعجرف، والذي يؤذي نفسية الطلبة رغم أنهُ في الواقع يؤدي تلك الرسالة بأحقيتها وجوهرها وصدقها.. فالكثير من الطلبة يتهافتون على الجري والمعدل بعيداً عن جوهر الحياة الجامعية وفلسفتها في خلق الشخصية والعمل على الذات وتطوير الخبرات.
واقعنا التعليمي في خطر نتيجة لثقافة التزييف القائمة على تلك الدرجات الوهمية، والإنصياع لشعار غريب ومجحف تعززهُ ثقافة التردي والإخفاق وهو “الشهادة للجميع والعلم لمن أراد” وهذا نهج مؤلم لما سيكون عليه واقع خريجينا ومنتجنا مستقبلاً فعند الاختبار الواقعي والحقيقي سيفشل أصحاب الشهادات في تحصيل أقل أبجدياتها أو مهاراتها أو متطلباتها، وسيخفقون في مجالها المهني والتطبيقي الحقيقي..
فكم من ممتاز “جماعة الإمتياز” لا يعرفون شيئاً عن تخصصاتهم، وكم من صاحب معدل “A” لا يتقن أساسيات المادة، وكم من فقاعة جوفاء سنجدها على مقاعد الدراسات العليا مستقبلاً ليأخذون أدوراً ليست لهم، ومكانات ليست من حقهم، ويتعينون في مناصب يدمرون من خلالها واقع مهنتهم ومستقبلها..
العلامة يا سادة ليست هي المعيار الوحيد للوصول والنجاح والتقدم والإنجاز والأدلة على ذلك كثيرة.. ماذا ستسفيد المستشفيات من طبيب هو الأول على التخصص لكنهُ لا يتقن الطبابه؟؟.. وماذا ستستفيد المدارس من معلم لغة لا يتقن نطق الكلمات لطلبته؟؟، وماذا ستعمل المؤسسات بأخصائيين أوائل لا يتقنون فن الإتصال والتدخل والممارسة؟؟، وماذا ستفعل المصانع بمهندسين لا يعرفون طبيعة العمل الذي يقومون به؟؟.. وهنا سنعود إلى السؤال الأهم والأول المعرفة أم الشهادة؟.. العلامة أم العلم؟ الدرجة أم الشخصية؟.. وهنا تتشتت البوصلة من جديد لنصحو على واقع مرير ونتائج أكثر مرارة إذا استمر النهج كما هو بالتركيز على الشكل وليس على المضمون، في تلميع الوجه وبيع المخزون، في إعطاء دور بطولة لأبطال هم على الأغلب من ورق ليعانون طيلة حياتهم من زيف ما يقومون به على اعتبار أنهم متفوقون وجديرون وهم يدركون تماماً في قرارة أنفسهم بأنهم لا يستحقون، وحصلوا ما حصلوه باللف والدوران والتمسيح وغيرها لتصبح هذه ثقافة العلامات الجديدة والله أعلم.. وللكلام بقية..
الله ولي التوفيق
د. إبراهيم العدرة
الجامعة الأردنية
كلية الآداب
السبت ١١- ٢- ٢٠٢٣