فيلادلفيا نيوز
سعيد الصالحي
كنت مشاركا في ندوة تتعلق في الأحداث الأخيرة التي عصفت في غزة وجوارها وآلت إلى طوفان اندفع من قلب غزة ليصل إلى كل مدن العالم، طوفان لم تسلم منه قوات الكيان الصهيوني النظامية والاحتياطية، بل أن هذا الطوفان أخذ في طريقه بعض البراقع والأقنعة التي كانت تختفي خلفها كثير من الوجوه والألسنة التي طالما تغنت بالحرية وعن حق الشعوب في تقرير مصيرها والدفاع عن نفسها، وعندما انتهت الندوة التي كان يديرها الناقد سليم النجار وشارك فيها ثلة من المفكرين وأصحاب الرأي من مدارس فكرية مختلفةـ استوقفني الناقد سليم النجار متسائلا وقال لي: ماذا يحدث في غزة؟ واستطرد قائلا: هذا عنوان كتاب جديد شرعت في إعداده أنا والزميلة وداد أبو شنب، نحاول من خلاله استقراء أراء العديد من الكتاب والمفكرين وأصحاب الرأي، فأتمنى عليك أن ترسل لي أجابتك على هذه السؤال.
وقبل عدة أيام حصلت على نسخة من كتاب “ماذا يحدث في غزة؟”، بداية لفت انتباهي غلاف الكتاب، ثم أسرعت نحو الفهرس لأجد اسمي في فهرس الكتاب إلى جانب قامات واسماء كبيرة من العالم العربي والاسلامي، وعلى عكس طبيعتي البشرية المشبعة بالأنا لم أذهب لأتأمل اسمي أو عنوان مقالتي، بل اندفعت مسرعا لأقرأ من كتبته الشاعرة الكبيرة د. سعاد الصباح، لأجد قصيدة تصف ما يجري في غزة وتمنيت أن تصل هذه القصيدة للفنان مارسيل خليفة أو الفنان سميح شقير لعل أحد منهما يشدو بها، ثم اصطدمت بمقالة للدكتور علي محافظة تبدو كمحاضرة حية من محاضرات الدكتور في إحدى الجامعات التي عمل بها، فالمقال يأصل لجذور الطوفان ويتتبعه منذ أن كان عينا صغيرة وعذبة، قبل أن يلوثها ويسرقها هذا المغتصب الصهيوني منذ عقود، وكان الكتاب يضم بين ثناياه مقالا للفنان الرائع والمثقف الدكتور مروان علان الذي كتب بكلماته كما يرسم بريشته وألوانه فقد وصف وأجاد الوصف، فقد تناول الجانب الاقتصادي لما نرى ونسمع، وكذلك فسر الكيفية التي تضاربت فيها المصالح العالمية ولكنها جميعها اتفقت على الشعب الفلسطيني، عندما تتأمل ما كتب الفنان مروان علان تشعر بلون كلماته وظلال المعاني فهو حقا يجيد الرسم بالكلمات كما قال الشاعر الكبير نزار قباني ذات يوم.
“ماذا يحدث في غزة؟” ليس كتابا لأرشفة المجازر، ووصف المذابح التي يقوم بها الكيان الصهيوني، فوسائل الاعلام المختلفة ستقوم بهذا الواجب، وستحفظ كل الصور والمقاطع المرئية والصوتية، إن هذا الكتاب سيحفظ أراء الناس وسيصف مشاعرهم وأحاسيسهم أثناء الطوفان، في هذا الكتاب ستلمس أن الوعي العربي الجمعي واحد من المحيط إلى الخليج، فتوثيق الوعي وحفظه في كلمات هو ما كان ينقص كل مذابحنا السابقة في دير ياسين واللد وصبرا وشاتيلا وتل الزعتر وقانا، كنا دائما نحرص على توثيق الفعل وحصر أعداد المفاعيل بهم لنجرم الفاعل، وكنا دائما نغفل عن تسجيل انعكاسات هذه المذابح على الناس البسيطة والنخب السياسية والثقافية والاجتماعية في بلادنا، “ماذا يحدث في غزة؟” كتاب يرصد الوعي ويتتبع الأحداث لاستقرأ النتائج والإنباء عن نصر سيأتي للشعب الفلسطيني الذي يعلو ذكره في كل أنحاء العالم في الوقت الذي تتداعى فيه مستعمرات وأكاذيب كيان الصهيوني في الداخل والخارج.
“ماذا يحدث في غزة؟” تباينت إجابة هذا السؤال في كل العالم في بداية الطوفان، فالدول الغربية رأت الرضيع الفلسطيني يقفز فوق الأسوار، ويجتاز كل الحواجز ليأسر جنديا مدججا بالسلاح، وفي هذا الكتاب أيضا تباينت الرؤى واختلفت العلل ولكن الوعي كان هو العنوان وحب فلسطين وغزة كان القاسم المشترك الأكبر بين كل وجهتي نظر ورأيين في هذا الكتاب، ولعبت الجغرافيا دورا في الإجابة على هذا السؤال أيضا، فالكتاب العرب من المغرب العربي رأوا ما لا نرى هنا في المشرق، وكانت عاطفتهم جياشة بقدر بعدهم عن فلسطين وكذلك كان التحليل التاريخي والديني حاضرا في معرض إجابتهم على السؤال، وفي هذا السياق فقد أعجزت الكلمات القاصة المغربية المميزة الزهرة رميج على حد اعترافها بوصف ما حدث، فعلى الرغم من أننا نعلم مقدار مخزونها العميق من المفردات واللغة وكذلك أسلوبها الرشيق وتقنياتها المتقدمة في كتابة القصة، فكل خبرتها ومهارتها في كتابة القصة لم تعنها ولم تسعفها في كتابة قصة السابع من اكتوبر ومذبحة الشعب الطيب الأعزل.
أما الآراء الواردة في الكتاب والآتية من غزة فهي حكاية بحد ذاتها تستحق أن تروى، فأنا أعرف كم تعذب معدا الكتاب للوصول إليها، وكم استغرقا من ساعات لإعداد صفحة أو صفحتين للكتاب الفلسطينين القابعين تحت النيران، فأحد هذه الرسائل والمقالات عاشت رحلة التهجير من الشمال إلى الجنوب في غزة كما عاشت صاحبتها، وكانت الانترنت تغيب عنها لعدة أيام قبل أن ترسل سطرا أو تستأنف تسجيلا صوتيا، وكان معدا الكتاب يسهران ليال طويلة لعل صوت رنين الهاتف يحمل من غزة بقية الحكاية مسطورا أو مرتلا، أما الإجابة التي كانت تأتي من فلسطين فقد حملت العتب وأرسلت لنا معان جديدة عن الصمود وصورا أخرى ربما لم تلتفت لها وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.
“ماذا يحدث في غزة؟” كتاب أتاح لكل من شارك في الإجابة على سؤاله أن يقدم ما يفهمه ويراه ويحس به، وتأثر كل منا باختصاصه ومعرفته وهواياته فأنا مثلا تحدثت عن التكنولوجيا وكيفية توظيفها في إبادة ابناء شعبي وحجب أصواتهم وصورهم في منصات التقنية الغربية، والمتخصص بالتاريخ تناول الأحداث من جوهر تخصصه واستنبط النتائج وحلل الأحداث من منظور تاريخي خالص، والروائيون والرسامون والشعراء لم تخل اجابتهم من صور فنية وعبارات أدبية، باختصار فإن كتاب “ماذا يحدث في غزة؟” قد جمع بين دفتيه آراء العالم العربي ووحدها كما توحدت الشعوب في ساحات المدن والميادين، فأحداث السابع من اكتوبر قد ألقت بظلالها أيضا على المشهد الثقافي في عالمنا العربي، وأكاد أجزم بأن هذا الكتاب هو الأول من نوعه في العالم العربي، فقد حرص المعدان أن يتواصلا مع شخصيات كثيرة في العالم العربي، ليجمعا لنا نبض وفكر كل قطر عربي فيما يتعلق بالأحداث الجارية في فلسطين وتحديدا في مدن قطاع غزة.
ولم يختلف أي مشارك في الكتاب بأن أمريكا تقف وراء الباب في تل أبيب، وأقتبس هنا ما كتبه الدكتور مروان علان عندما وصف الكيان الصهيوني بأنها “كيان أمريكا المختار” فقد استوقفني هذا الوصف كثيرا لما يحمله في طياته من اختزال للمسألة وتفسير للدور الأمريكي السافر والمعيب، فأمريكا في هذه الأزمة كانت هي الطاعون كما وصفها محمود درويش منذ عقود، وعلى ذكر محمود درويش فقد حملت بعض صفحات الكتاب ربطا بين أحداث الماضي واليوم والمستقبل بطريقة أدبية جميلة عندما أسقط الكاتب منذر كمال اللالا قصيدة مديح الظل لدرويش على ما يحدث اليوم في فلسطين وغزة وكأن عقارب الزمن قد توقفت عند هذا الشعب عند ذات الحدث دائما، وبات الكيان الصهيوني ومن ورائه أمريكا يعيدان استنساخ الأحداث كل عقد، ولكنهما لم يتعلما بأن فلسطين هي العتبة الأخيرة نحو السماء، فهي لن تختفي ولن تذوب، وستبقى فلسطين من رأس الناقورة إلى أم الرشراش ومن الماء إلى الماء حافظة لإرث كل من رحلوا نحو السماء وشاهدة على كل من فشلوا في محاولة اغتيالها أو الالقاء بها في جب عميق.
“ماذا يحدث في غزة؟” كتاب يستحق أن تحتفظ به في مكتبتك وأن تعيد قراءته مرات ومرات في المستقبل وأنت تستظل بشجرة زيتون في اللد أو دالية عنب في الخليل أو شجرة دراق في صفد أو تحت شمس مدينة بئر السبع وأنت تستمتع بحمام شمس في فلسطين المحررة، كتاب “ماذا يحدث في غزة؟” محاولة جديدة كتبت للمستقبل ويستحق عليها كل من الناقد سليم النجار والناقدة وداد أبو شنب كل التحية وعشرات باقات الورود.