فيلادلفيا نيوز
سليم النجار
ينحاز سرد الأسيرات المحرَّرات في نصوصهم إلى المقدرة اللغويَّة والبراعة الفنيَّة والتصويريَّة، مِمَّا يجعلهن يحلِّقنَ بِسَردِهِنَّ في فضاءات التجديد في رؤية حداثيَّة منسجمة الإبداع، وتتلاحم كلماتهنَّ كتلاحم الجسد، إذا انفصلت بعض أعضائه ظهر مُشوَّهاً. فالسرد بالنسبة لهن وظيفة وأسلوب وإنَّ لكل مقطعٍ سرديٍّ وظيفته الإبداعيَّة. كما حملنَّ على عاتقهنَّ العاطفة الإنسانيَّة التي تتأثر بكل ما في الحياة من مؤثِّرات تلامس وجدانهنَّ، فيَستَجِبنَ لهذه العاطفة الوهَّاجة خاصةً عندما تتعلق بالوطن فلسطين، ويعبِّرن بصدق عنها، ومنها المعاناة في المعتقلات الإسرائيلية، التي برعت الأسيرة المحرَّرة جيهان فؤاد دحادحة- رام الله- سنة الاعتقال ٢٠٠٦- في تصويرها (إنَّني لا أحارب بل هو حق مسلوب يجب أن يعاد.
يصرخ قائلاً:
إنتِ وين مفكرة حالك بكرخانة؟
نظرت إليه قائلة ما هي الكرخانة؟ أنتِ من تعي فقط ما هي ص١٤٦).
فكلُّ سؤالٍ عظيمٍ في الحياة هو رُوحُ السرد، ثم ما قِيمةُ السرد إنْ لم يُثِر تساؤلاً ويحرك رغبةً! هذا قبل أنْ يجعل منه وسيلةً لنيل غاية، رُبَّما أتت هذه المفارقة من واقع الحال للمعتقل الإسرائيلي التي وصفته الأسيرة المحرَّرة نهاد عبدالله وهدان صالحية- مكان الاعتقال مخيم الجلزون- سنة الاعتقال ١٩٨٦: (الحمام ذو المنظر المُقرِف لم أستطع الجلوس عليه أول ليلة لإراحة قدميَّ، هناك خطوات نحو الباب وأصوات السلاسل تتقدَّم ويفتح الباب، فإذ هناك ثلاثة عناصر يقوم أحدهم بسحبي من الغرفة ودون سابق إنذار يعتدون عليَّ بالضرب المبرح من صفعٍ وركلٍ وخنق ص١٥٥).
لكن مع عودة إلى العاطفة مرَةً أخرى؛ ليس من السهل أن نقول ما هو السرد، لكنه شعورٌ أو شيء مرتبط به، مع الاستخدام الماهر للُّغة السرديَّة، وهذا يجعل من الممكن التعبير عن الأشياء الّتي لا يمكن التعبير عنها بالوسائل العاديَّة للُّغة، ومن ثم خلق جوٍّ خاصٍ في غضون ذلك. لنقرأ ما كتبته الأسيرة المحرَّرة منى حسين قعدان- جنين- سنة الاعتقال ١٩٩٩:(ما زالت ذاكرتي تلتفت إلى ذاك المشهد، كيف سَوَّلَت لهم أنفسهم تركي في العراق دون شيء يقي جسدي برودة الموقف وبرودة الجو؟ ص١٦٥).
إنَّ الصورة الشعريَّة التي خطتها الأسيرة المحرَّرة عهود عباس شوبكي- سنة الاعتقال ٢٠٠٤- نابلس- مخيم عسكر القديم- في سردها ما هي إلَّا مرآة عاكسة للتفاصيل والندبات على الروح الإنسانيَّة. فالسرد هو البوح النازف من الروح والملامس للروح الأخرى والمُستفزُّ للعاطفة لأنه ناتجٌ عن عاطفة: (هي الأيَّام المُعَبَّقَة بالجراح والذكريات، طفولةٌ بريئة كانت تنتظر قدرها المحتوم على تعداد أرقامها، لا تعرف ماذا يخبئ لها الزمن سوى علامات سؤال نقشت على جسد الساعة. كانت الساعة الحادية عشرة ليلاً من شهر رمضان، وخمسة أيام من نوفمبر، في الوقت الذي أدرس فيه استعداداً لامتحان التاريخ ص١٨٧).
إنَّ أهمية الصفة العاطفيَّة، وخليقتها الدامعة، وروحها المتشظيَّة، غالباً ما تُكوَّن بهدف آخر هو شاملٌ عابرٌ للحرفي، فهو يثير الذكريات ويصف الإحساس بذات اللحظة ليجعل من الدمعة سيلاً. ثم إنَّ للوجدان كلامه، الكلمة الشعريَّة تتمرّد على الفم واللغة، وإن لم يكن الوجدان قادراً على البوح فلن يفيد اللِّسان في شيء، كما صَوَّرت الأسيرة المحرَّرة مي وليد الغصين- سنة الاعتقال ١٩٩١- من بلدة بيتونيا- بيت سيرا: (اليوم: السبت
التاريخ: ٢٦/ ٩/ ١٩٩٢
المكان: سجن تلموند/ قسم الأسيرات/ غرفة رقم ٢- ما أجمل تلك العصافير، ما أعذب شَدوها، أراها من بين قضبان النافذة، تطير هنا وهناك، تجتمع، وتتفرق، لتعود من جديد وتشدو بزقزقة جماعيَّة متناغمة.
أتسائل بيني وبين نفسي، ما الذي يجبرها أن تأتي لهذا المكان، فقد تجرح تلك الأسلاك الشائكة جسدها الرقيق، وقد يُفزِعُها صوت السجَّانة التي تنادي للعدد، وقد يؤلمها أنَّها تخرج من القضبان؟ ص٢٠٠).
إنَّ كتابة الأدب في المعتقل الإسرائيلي وسرد معاناة الأسيرات الفلسطينيات ممارستان ثقافيَّتان تتَّصل كل منهما بالإنسان إتصالاً وثيقاً.
فالأسير الفلسطيني هو موضوع الأدب والتاريخ أيضاً، ومن ناحية أخرى طريقة للنظر لهذا السَجَّان الصهيوني الذي يتفنَّن في خلق منظومة عنصريَّة لتحطيم الروح الفلسطينية المقاومة لهذا المحتل. كتاب ترانيم اليمامة- مذكرات أسيرات محرَّرات شاهدٌ على وحشيِّة الاحتلال الإسرائيلي، وعنجهيِّته، وقُدرَتِه على اغتصاب الفكرة وتصويرها على أنَّها محاربة “الإرهاب”، لكنَّ الكلمة الفلسطينية فضحت وعَرَّت هذا الزيف، وستبقى الكلمة العربية الفلسطينية المبُدِعة مفتاح السٍرِّ لتحرير الكلمة من مغتصبها.