فيلادلفيا نيوز
في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم في ميادين المعرفة والاقتصاد والتكنولوجيا، بات من الضروري إعادة التفكير في أدوار مؤسسات التعليم العالي، ليس فقط كمراكز لتدريس المعارف الجاهزة، بل كمحاضن لإنتاج المعرفة الجديدة وربطها بحاجات المجتمع. من هنا، تبرز الحاجة إلى تعزيز التكامل بين وظيفتي التدريس والبحث العلمي، بوصفهما جناحين أساسيين لأي جامعة طامحة إلى التميز والريادة.
في الكثير من الجامعات، لا يزال التدريس والبحث العلمي يُنظر إليهما كمسارين منفصلين. فالتدريس يُمارس بوصفه نشاطًا يوميًا ينصبّ على نقل المعارف وتقييم التحصيل، بينما يُختزل البحث العلمي في نشر أوراق أكاديمية قد تفتقر أحيانًا إلى الارتباط الفعلي بالقضايا المجتمعية أو الابتكارات التطبيقية. هذه الفجوة، إن استمرت، ستؤدي إلى إفراغ الجامعة من دورها الحيوي في التغيير والتأثير.
إن أحد المفاتيح المهمة لإصلاح هذا الوضع يتمثل في تعزيز الحرية الأكاديمية، باعتبارها الإطار الضامن للإبداع والابتكار. فالأكاديمي لا يستطيع إنتاج معرفة حقيقية دون حرية في التفكير، واستقلالية في اختيار موضوعات بحثه، وبيئة تسمح له بطرح الأسئلة الجريئة. كما أن الطالب الجامعي لا يمكن أن يكون باحثًا فاعلًا أو ناقدًا إذا لم يُمنح الفرصة للمشاركة في التفكير، وليس فقط في التلقي.
من هنا، يجب أن يُنظر إلى البحث العلمي ليس كنشاط مغلق يبحث عن “إجابة صحيحة”، بل كمسار مفتوح يُفضي إلى أسئلة جديدة، ويواكب المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية. هذا التصور للبحث العلمي، بوصفه نشاطًا مفتوح النهاية، هو ما يميز الجامعات البحثية الحقيقية، ويجعلها بيئة خصبة للإبداع والابتكار.
لذلك، فإن الدعوة إلى نموذج “الجامعة البحثية” ليست ترفًا أكاديميًا، بل ضرورة إستراتيجية. إنها الجامعة التي تُدمج فيها عمليات التدريس مع البحث، بحيث يصبح الطالب شريكًا في إنتاج المعرفة، ويُعاد تصميم المناهج لتكون قائمة على المشروعات والتفكير النقدي. كما أن هذه الجامعة لا تُقاس جودتها بعدد الساعات التدريسية، بل بمدى إسهامها في حل مشكلات المجتمع، ومدى تأثير أبحاثها في السياسات العامة، والابتكار الصناعي، والتنمية المستدامة.
إن مجلس التعليم العالي – وكل الجهات ذات العلاقة – مدعوون اليوم إلى إعادة النظر في السياسات القائمة، ودعم الجامعات التي تملك مقومات التحول إلى مؤسسات بحثية حقيقية. هذا يتطلب إعادة بناء البنية التحتية البحثية، وتطوير آليات التمويل، وتعديل معايير الترقية الأكاديمية لتُكافئ الإسهام البحثي الحقيقي لا مجرد النشر الشكلي، وتشجيع التعاون بين التخصصات.
إن التحول نحو جامعة بحثية لا يعني بالضرورة إلغاء وظيفة التعليم، بل يعني دمجها في مشروع أوسع لصناعة المعرفة. وهذا هو الفارق بين الجامعة التي تدرّس، والجامعة التي تُنتج، وتؤثر، وتبتكر.
