الأربعاء , أغسطس 6 2025 | 11:24 ص
آخر الاخبار
الرئيسية / stop / ا.د مخلد سليمان الطراونه يكتب : “من الأزمة إلى الإنجاز: الأردن ورافعة BOT الصامتة”

ا.د مخلد سليمان الطراونه يكتب : “من الأزمة إلى الإنجاز: الأردن ورافعة BOT الصامتة”

فيلادلفيا نيوز

في بلدٍ يرزح تحت وطأة المديونية، ويكافح تحت قيود العجز المالي وتنامي الحاجات التنموية، تتحوّل الأزمة من مجرد تحدٍّ إلى أداة تشخيص، وفرصة لإعادة التوجيه. لم يعد مجديًا أن تواصل الدولة الأردنية توسعة مشاريعها الخدمية والتنموية بالاعتماد على التمويل المباشر وحده، في ظل محدودية الموارد وزيادة المطالب المجتمعية بخدمات نوعية في قطاعات أساسية كالصحة والتعليم والبنية التحتية. من هنا، تبرز الشراكة مع القطاع الخاص، وتحديدًا نموذج بناء–تشغيل–نقل الملكية (BOT) ، كأداة من أدوات الاقتصاد السياسي القادرة على البناء في قلب الأزمات، حينما تعجز الموازنات عن مواكبة الطموحات.
نموذج BOT، الذي يُعد أحد أبرز أنماط الشراكة بين القطاعين العام والخاص، يقوم على تولي المستثمر مهام تصميم المشروع وتمويله وبنائه وتشغيله وصيانته بالكامل وعلى نفقته الخاصة، مقابل امتياز تشغيلي لفترة زمنية محددة يتقاضى خلالها العائدات، لينقل بعد ذلك ملكية المشروع إلى الدولة دون مقابل. إنها معادلة متزنة: الدولة لا تدفع مسبقًا، والمواطن يحصل على الخدمة، والمستثمر يربح، وفي النهاية، تمتلك الدولة أصلًا إنتاجيًا دون أن تتحمل كلفته.
ورغم توسع هذا النموذج في كثير من دول العالم، فإن استخدامه في الأردن لا يزال محدودًا ومقيّدًا. فحتى بعد إقرار قانون الشراكة رقم 17 لسنة 2020، ما تزال المشاريع المطروحة بنظام BOT نادرة، ولا تُعتمد إلا بعد موافقات مركزية من رئاسة الوزراء، خصوصًا في قطاعات الإنشاء، وهو ما يعيق السرعة والكفاءة. هذا التردد يعود إلى غياب بيئة تشريعية وتنظيمية متكاملة تُمكّن هذا النموذج من التوسع، في ظل غياب نماذج عقود قياسية، وافتقار الوزارات إلى كوادر فنية مؤهلة، وعدم وجود وحدة متخصصة تُعنى بإدارة الشراكات وتنظيمها. هذا الجمود يحرم الدولة من فرص تنموية وتمويلية كبرى. فالأردن يحتاج إلى تنفيذ مشاريع استراتيجية في مجالات الطرق، والتعليم، والصحة، والطاقة، ولا يمكن للموازنة العامة أن تتحمل عبء هذه الكلف بمفردها. وهنا يبرز BOT كحل عملي، ليس فقط لتخفيف الضغط المالي، بل أيضًا لنقل المخاطر التشغيلية والتنفيذية إلى القطاع الخاص، وتحفيزه على رفع الكفاءة وجودة الخدمة، بما أن أرباحه مرتبطة مباشرةً بنجاح المشروع واستدامته.
ولا يقتصر أثر نموذج BOT على البنية التحتية التقليدية من طرق ومياه وطاقة، بل يمتد أثره إلى القطاع الأكاديمي، وعلى رأسه الجامعات الأردنية، التي تعاني اليوم من أزمة مركبة: ضعف في التمويل، تراجع في التصنيف، بنية تحتية متهالكة، ومحدودية في التوسع نحو التخصصات التقنية والمهنية المطلوبة لسوق العمل. فبدلاً من تحميل موازنات الجامعات – أو الدولة – عبء بناء كليات جديدة، أو مجمعات بحثية، أو سكن طلابي، يمكن طرح هذه المشاريع بنموذج BOT، بحيث يقوم المستثمر بتشييد الكلية أو المجمع أو السكن وفق أعلى المعايير، ويقوم بتشغيله لمدة زمنية محددة، مقابل استيفاء إيرادات من رسوم الاستخدام أو من عوائد التأجير، ثم يُنقل الأصل في نهاية المدة للجامعة دون مقابل. هذا النموذج يمكن أن يُستخدم أيضًا في تطوير البنية الرقمية للجامعات، مثل إنشاء منصات تعليم إلكتروني، أو بنية تحتية للحوسبة السحابية، أو حتى مختبرات ذكية، بما يسمح بإحداث قفزة نوعية دون أن تكون الجامعات ضحية لمعادلة “الواقع المالي مقابل الطموح الأكاديمي”. ولعلّ من أكبر مزايا BOT في هذا السياق أنه يُعيد الثقة بين القطاع الخاص والجامعات، ويمنح المؤسسات الأكاديمية مرونة في التطوير العمراني والتقني، دون الدخول في دوامة العجز والديون. كما أنه يفتح المجال لشراكات ابتكارية تتقاطع فيها المصالح التعليمية بالجدوى الاستثمارية، خصوصًا في ظل ما تشهده المنطقة من سباق نحو التعليم التقني والمهني، والتعليم عن بُعد، والتحول الرقمي.
ولإطلاق العنان لهذا النموذج، لا بد من خطوات جريئة تبدأ بتحرير القرار الإداري من قبضة البيروقراطية المركزية، وتمكين الوزارات من طرح مشاريع BOT ضمن معايير واضحة دون الحاجة إلى موافقات عليا في كل حالة. كما يجب تأسيس وحدة مركزية لإدارة الشراكات، تابعة لوزارة المالية أو وزارة التخطيط، تُعنى بتقديم الدعم القانوني والمالي والفني. بالتوازي، يجب الاستثمار في بناء القدرات المؤسسية، من خلال تدريب الكوادر الحكومية على إعداد الدراسات والعقود، والتفاوض مع المستثمرين بكفاءة وشفافية. ويُستحسن أن تبدأ الدولة بطرح مشاريع نموذجية ناجحة، تُشكل قصص نجاح تُبنى عليها ثقة السوق وتحفز المزيد من المبادرات.
إن دولة الرئيس، المعروف بفكره الاقتصادي، يدرك جيدًا أن الاستثمار لا يحتاج فقط إلى تشريعات، بل إلى إرادة سياسية ومبادرات عملية. فالمشاريع الكبرى لا تُنجز بالخطط المجردة ولا بالشعارات، بل بأدوات تنفيذية واقعية ومرنة. ونموذج BOT، الذي أثبت نجاحه في بيئات أكثر تعقيدًا من بيئتنا، قادر على أن يتحوّل إلى رافعة للنمو إن أُحسن استخدامه. نحن لا نحتاج إلى أموال إضافية بقدر ما نحتاج إلى آلية فاعلة تُحوّل الأموال الخاصة إلى مشاريع عامة مستدامة، وتُعيد للدولة قدرتها على البناء والشراكة والإدارة. نعم، إن البناء في رحم الأزمات ليس خيارًا اضطراريًا، بل استراتيجية وطنية ممكنة، إذا ما توفرت الإرادة واتُّخذ القرار.

طباعة الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تنويه
• تتم مراجعة جميع التعليقات، وتنشر عند الموافقة عليها فقط.
• تحتفظ " فيلادلفيا نيوز" بحق حذف أي تعليق، ساعة تشاء، دون ذكر الأسباب.
• لن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة، أو خروجا عن الموضوع محل التعليق، او يشير ـ تصريحا أو تلويحا ـ إلى أسماء بعينها، او يتعرض لإثارة النعرات الطائفية أوالمذهبية او العرقية.
• التعليقات سفيرة مرسليها، وتعبر ـ ضرورة ـ عنهم وحدهم ليس غير، فكن خير مرسل، نكن خير ناشر.
HTML Snippets Powered By : XYZScripts.com