فيلادلفيا نيوز
حطّت بي الرحالُ في الكويتِ الشقيقة، كطائرٍ مهاجرٍ أرهقهُ التحليق، فوجدَ تحتَ سدرتها الوارفة ظلاً يضمدُ به تعبَ جناحيه، ونسيمًا يمسحُ عن قلبه غبارَ السفر. جئتُ أحملُ في حقائبي أشباحَ ذكرياتٍ ما زالت تسكنُ زوايا الروح، وشظايا من كرامةٍ مزّقها القهرُ في وطنٍ نسينا فيه كيف يكون الحبّ، ونسينا فيه طعم الأمان. جئنا لا نحملُ سوى حنينٍ ثقيلٍ يختبئ بين الضلوع، وأمتعةٍ من أوجاعٍ طوّقها الصمتُ سنين طويلة.
كنا نُنبذُ في أرضِ الآباء والأجداد كغرباء، كأننا خطيئةٌ لا تُغتفر. “ما بسمع الكلام”.. جملةٌ ثقيلة كحجر الرحى على الصدر، تفتّت ما تبقّى من الثقة. “مش قد الإيد”.. سكينٌ غرسوها في خاصرةِ الكرامة بلا رحمة. طُردنا من جنّاتِ أوطاننا كما يُطردُ العطشان من واحةٍ كان يظنها ماءً، فإذا بها سرابٌ يلهثُ خلفه عبثًا.
وقد عرفتُ وجهًا آخر من الغربة وأنا على أرض الوطن، حين مورس عليَّ ما أسميه “الإبعاد الناعم”؛ إقصاءٌ بلا ضجيج، لكنه أشد قسوة من الطرد العلني. أبعدوني عن مواقع كنتُ على يقين أنني من أكفأ المتقدمين لها، وتركوا الساحة لوجوهٍ صعدت بسلّم الواسطة والشللية، لا بسلم الكفاءة والجدارة. ما زالت قصة “الاقتصاد الرقمي” والمجلس المصغّر حاضرة في ذاكرتي، مجلسٌ بدَا وكأنه يحتاج إلى دروسٍ في محو الأمية قبل أن يدير ملفًا واحدًا، لكنّ الدولة العميقة كانت تعرف كيف تقدم أبناءها وتقصي من لا يدخل في دائرتها. حاولتُ مرةً أخرى، لكن الخط الأحمر كان لا يزال مرسومًا فوق اسمي، والخروج عنه كان يعني النهاية. كان الأمر مؤلمًا، ومزعجًا… وكأننا كنا بحاجة إلى مزيدٍ من الخسارات فوق ما نملك! واخرى !
لكنّ اللهَ، الذي أغلقَ أبواب الظلم، فتحَ لنا أبوابًا أوسع من الأفق، وأودع في طريقنا قلوبًا تحتضن قبل أن تسأل. تحت سدرةِ الكويتِ الوارفة، وجدتُ دفئًا يُذيبُ جليدَ الغربة، وطمأنينةً تشبهُ الماءَ حين يروي عطشَ المسافر. هنا، حيث الشمسُ لا تغربُ عن الوجوه المضيئة، والناسُ كالنخيل، يمدّون الظلَّ والثمرَ بلا حساب، أدركتُ أن الغربة ليست موتًا، بل امتحانٌ يعلّمنا كيف نبحث عن الحياة في أرضٍ جديدة.
لم أنسَ وطني، ولم تبهت صورته في قلبي، لكنّي تعلّمتُ أن الأوطان قد تتعدّد، كما تتعدّد القلوب التي تمنحك الحبّ دون مقابل. نحكي هنا عن أفراحٍ سُرقت منّا، ونحاول أن نعيد خياطتها بخيوط الأمل، نرقّعُ سوياً ما تمزّقَ من أحلامنا، ونزرعُ على تراب الغربة وردًا قد يزهرُ ذات يوم في أرضنا الأولى.
الكويتُ كانت البلسمَ الذي ضمّد جروح الاغتراب، والسدرةَ التي استظللتُ بظلّها في لهيب المنفى. هنا، تحت أغصانها الممتدة، فهمتُ أن الوطن ليسَ حدودًا تُرسمُ بالدمّ والحبر، بل هو دفءُ القلوب التي تضمك، والأيادي التي تمسح دموعك، والعيون التي تقول لك بصمت: “أنت لستَ غريبًا هنا”.
فشكرًا لكِ يا كويت، يا سدرةَ المنفى الوارفة، ويا حضنًا صادقًا في زمنٍ جفّت فيه الأوطان. أنتِ وطنٌ يصنعه الحبّ، لا الجغرافيا؛ وطنٌ مؤقّتٌ في المكان، لكنّه أبديٌّ في القلب والوجدان.
