فيلادلفيا نيوز
قراءة بديعة النعيمي
قدم العمل الدكتور إبراهيم خليل حيث امتدح مزامير محمد سرسك بأنها نصوص وخواطر مكثفة ينسحب عليها القول المأثور خير كلام ما قلت حواشيه وكثرت معانيه.
قسم الكاتب مزاميره إلى أربعة أقسام القسم الأول بعنوان مزامير كنعانية والثاني مدينتي يبوس أما القسم الثالث فكان بعنوان وتريات والقسم الرابع والأخير كان تحت عنوان من الواقع.
كانت الأمكنة التي اختارها الكاتب في معظم أقسام مزاميره أماكن واقعية تمثلت بفلسطين وبعض مدنها مثل عكا والضفة الغربية وبالتالي فإنه من الطبيعي أن يرتبط المكان الواقعي بزمن حقيقي فمن نكبة فلسطين إلى انتفاضتها المباركة.ومن المعروف بأن فلسطين تمنح الكاتب الأصيل أدوات الإثارة والتشويق عند القارئ المتذوق وبالتالي القدرة على الإبداع. فكان لكل مزمار عند محمد سرسك خصوصيته.وقد سيطر المكان على حركة الأبطال في هذه المزامير .كيف لا والمكان هو فلسطين بكل تجلياتها وقدراتها حيث أنه لو تم ضغط الزمن جميعه قبل القرن العشرين لتساوى مع أحداث القرن العشرين ،من الذي صنع هذا؟ إنها فلسطين وما دار على أرضها وتخطاها إلى خارج حدودها آلاف الأميال.
كانت حوارية الأرض والتاريخ أولى مزامير محمد سرسك على شكل مشهد مسرحي ..يدور هذا المشهد بين ثلاث شخصيات هم شلوم وملخماة والخيال الذي لم يظهر سوى مرة واحدة ليقول عبارة مبتورة لم تكتمل ص15 (الشعب قد تلون….)ثم يختفي. وقد يكون الكاتب قد لمح من خلال هذه العبارة إلى فترة الانتفاضة المباركة الأولى عام 1987. حيث يكشف لنا فيما بعد ما قاله ملخماة لشلوم ص11 (من البداية كان عليك أن تسحقها ،تلك الأيدي التي تلوح لموتنا) وأظن هنا بأنه قصد أيدي الفلسطينيين التي استخدمت الحجارة كسلاح لها في تلك الانتفاضة وخصوصا الأطفال الذين تعرضوا من قبل إسحاق رابين إلى تكسير العظام. والانتفاضة الأولى هي التي أجبرت دولة الاحتلال أن تدعو منظمة التحرير الفلسطينية إلى محادثات السلام.
وهنا يقول شلوم لملخماة ص13(أعطيتهم المكان وأعتقل الزمان) فالمكان كان ما حصلت عليه المنظمة في محادثات أسلو وهو الضفة الغربية وقطاع غزة والزمان هو الحكم الذاتي الانتقالي لفترة خمس سنوات..
ويظهر الكاتب في هذه القصة تخوف ملحماة من الولادات الكثيرة لنساء فلسطين فيتخيل أنهن يلدن جيوشا تصنع موت ونهاية دولة الاحتلال ويظهر هذا ص12على لسان ملخماة (إنهم يصنعون موتنا تحت جلودهم ،ربما تصبح النساء لديهم مخزن للذخيرة،إنهم يخيفونني)
وإلى حي الفاخورية في عكا والمزمار الثاني حيث معاناة الفلسطيني داخل خطوط دولة الاحتلال حيث كبر أولاده وتقمصوا عادات اليهود فإبراهيم الابن البكر لبطل القصة يستعرض شبابه الذي تفتح في دولة غريبة مغتصبة أمام اليهوديات المراهقات بل قد يتمادى كما يسرد الكاتب في إحضار إحداهن إلى البيت. وابنة البطل لمياء التي تنكشف لها أنوثتها حيث تستعرض جسدها الذي ينضج يوما بعد يوم أمام مرآة اختطفتها من غرفة أمها.
إلى معاناة الأب مع رئيسه في المصنع الذي يعمل به إلى معاناته في الحصول على تصاريح البناء كما معاناة الفلسطيني من الدرجة الثالث إلى غربة الأهل الذين تشردوا والوطن الذي غادر حي الفاخورية.
وفي المزمار الثالث الأميرة المهزومة يذكرنا بيهود الشتات مثل يهود الفلاشة وهم يهود أفريقيا ويهود أوروبا ذوي العيون الزرق وكيف استخدموا أساطيرهم لإثبات حقهم في فلسطين والتي أصبح اسمها “إسرائيل” بعد اغتصابها وأصبح صاحب الحق عامل نظافة من الدرجة الثالثة.
وتستمر المزامير في مزمار أرض الميعاد حيث يستعرض الكاتب ماضي اليهود في الجيتوات وإلاههم المزعوم يهوه الذي يتعشق لدماء الأغيار وهذا فيه إشارة إلى دولة الاحتلال التي قامت على دماء الفلسطينيين التي سالت في المذابح التي ارتكبت في حقهم ويضرب لنا مثلا على واحدة هي مذبحة عيون قارة التي ارتكبت بتاريخ 20/5/1990 حيث قتل ثمانية عمال فلسطينيين ص29( ويتردد في الرأس صدى خطوة تائهة..أطلق…تنساح الدماء…..وعشش في الصدر الصغيرة حرقة بلا وداع)
وفي القسم الثاني بعنوان مدينتي يبوس يقسم مدينته إلى تسع شهقات.. أولاها حشرجات مقيمة حملت رائحة القتل والطرد وما تعرضت له قرى ومدن فلسطين من تطهير عرقي فيذكر ما تبقى من شجرة حور لا زالت تقاوم هنا إلى مفتاح يعد بالرجوع هناك ،حياة القرية الهادئة وأرهب ما فيها كان صوت ذئب يخترق سكون الليل إلى رصاص جلب معه اللون الأحمر ورائحة الموت فحياة الشتات واللجوء والمخيمات. ويختتم هذه الشهقة بعبارة 40 (وعبير صبية قد دخلت قلبي وبقيت فيه) وعبير امرأة والمرأة تعني الخصب هي التي تلد ودوام الحياة موصول برحمها الولاد وهؤلاء هم نساء فلسطين.
ومن شهقة إلى شهقة حيث الحديث عن الانتفاضة التي ولدت في الضفة الغربية إلى ذكره لأشجار الزيتون وأهميتها عند الفلاحين إلى ملامح حياة المخيم الهلامية التي تشبه الحلزونة في شهقة الحلزونة وأرض العسل والحلوى التي تجلب الذباب والذباب هم اليهود الذين تعملقوا وسرقوا فلسطين..وفي شهقة انزراع حيث ذكريات الطفولة وطيات حب في فصل الخير والحب والرحيل..إلى الحب والأمل بربيع يدوم وحياة المخيم التي تختبئ بين المشاعر في شهقة الأجراس الصغيرة وإلى آخر الشهقات نمضي إلى الكاميرا.
في القسم الثالث المعنون بوتريات حيث التكثيف الذي اشتغل عليه محمد سرسك والعمق الذي أراده لها. جاءت هذه التسمية متقصدة من قبل الكاتب لينقل لنا شعورا بأن كل وترية هي وجبة إنسانية سريعة لكنها كاملة الدسم. ولا يفتأ في وترياته يذكرنا من خلال كلماته الشاعرية بارتباط الإنسان بالمكان والماضي ص82(أطارد الماضي داخل صندوق) ويلفت انتباهنا بأن المكان مرتبط بالماضي والطفولة.
أما الجزء الرابع والذي عنوانه من الواقع تضمن أربعة قصص قصيرة واقعية فاضت في معارك المشاعر الإنسانية التي تتولد من وجع عدم القدرة على الإنجاب ،الفقر وقصر ذات اليد، عجز الرجال وعويل رغبات النساء تضج بين طياتها الخيانة والعار..
ولا بد من القول بأن محمد سرسك استخدم مصطلحات تدل على الأمل مثل الصبح والضوء..وأخرى تدل على القوة مثل البحر والتي استخدمها أكثر من مرة..وأخرى تدل على الظلم مثل شمشون وهذه شخصية ذكرت في الأساطير التوراتية وشمشون يهودي يقتل الفلسطينيين.. والكثير من المدلولات يضيق بنا هذا المقام الإتيان على ذكرها جميعا.
مزامير معرفية نثرها محمد سرسك في سفينة لا زالت تمخر في بحر التاريخ الفلسطيني وأتمنى أن ترسو في ميناء النقاد لتعطى حقها من القراءة والنقد.