السبت , ديسمبر 20 2025 | 6:24 م
الرئيسية / stop / المفكر والمؤرخ خالد الأبلج يكتب: الأكاذيب الجديدة حول الأقصى.. تفكيك الوعي وتزوير المقدسات

المفكر والمؤرخ خالد الأبلج يكتب: الأكاذيب الجديدة حول الأقصى.. تفكيك الوعي وتزوير المقدسات

فيلادلفيا نيوز

حين نتحدث عن المسجد الأقصى، فإننا لا نتحدث عن مبنى من حجارة، بل عن رمز خالد في وجدان الأمة، عن عهد السماء مع الأرض، وعن موضع الإسراء العظيم الذي جسّد العلاقة بين الله ورسوله والمؤمنين. لكن اليوم، ومع توسع الفضاء الرقمي، ظهرت موجة فكرية جديدة تسعى لتغيير هذه الحقيقة الراسخة، مزعومة أن المسجد الأقصى ليس في القدس، بل في مواقع أخرى مثل الجعرانة أو طريق الطائف، محاولة لتفكيك وعي الأمة ونزع قداسة المكان من قلب المسلم. هذه المزاعم ليست مجرد جدل لغوي أو نظريات تاريخية، بل هي محاولة دقيقة لإضعاف الرابط الديني بين الأمة وموطنها التاريخي، وفك ارتباطها بفلسطين.

 

ظهرت هذه الموجة خلال العقد الأخير، مستفيدة من انفتاح وسائل التواصل الاجتماعي، ومنصات الفيديو، والمواقع البحثية المفتوحة، حيث تمكن الأفراد من نشر أفكارهم بسهولة دون رقابة أو تحقق علمي.

 

وقد استخدم بعضهم بيانات جزئية وخرائط انتقائية لإيهام الجمهور بأن المسجد الأقصى موجود في أماكن مختلفة، مستهدفين بالخصوص الشباب الباحث عن الغرائب والظواهر الجديدة، وأحيانًا الباحثين عن الشهرة، وأحيانًا آخرين مدفوعين برغبة في التفرد الفكري، بعيدًا عن مصادر المعرفة الموثوقة.

 

من أوائل من روّجوا لهذه المزاعم المفكر السورى أحمد داوود، الذي استغل قراءات لغوية جزئية للقرآن ليزعم أن بعض المواقع المذكورة تقع في الجزيرة العربية، كما انضم يوسف زيدان ببعض اللقاءات الإعلامية، مؤكدًا أن الأقصى ليس مرتبطًا بالقدس، بل في طريق الطائف. وبعض المدعين ممن يبحثون عن إثارة الجدل دون سند علمى موثق،مستهدفين تفسير النصوص بعيدًا عن سياقها التاريخي والشرعي هذه الادعاءات، وإن بدت في ظاهرها لغوية، فإنها في جوهرها سياسية وثقافية، وتتقاطع مع ما طرحه المستشرق الإسرائيلي مردخاي كيدار الذي صرّح في الكنيست بأن المسجد الأقصى ليس في القدس بل في الحجاز، في محاولة لتقويض المشروعية الدينية للصراع الفلسطيني.

 

المنهج الذي اعتمد عليه هؤلاء قائم على تأويل لغوي انتقائي بعيد عن الإجماع التاريخي والشرعي، وهو ما وصفه الدكتور محمد عمارة بأنه “تمرّد على النص، لا اجتهاد فيه”، مؤكدًا أن هذه المحاولات ليست بحثًا علميًا، بل جزء من مسار التغريب الفكري. بينما يرى الدكتور عبد الرحمن الحربي أن هذه “القراءات الجغرافية” هي محاولة خبيثة لتحريف النصوص وفصلها عن سياقها الشرعي وإجماع الأمة. أما البروفسور عبد الله الفيفي فيشير إلى أن “الذين يروجون لهذه المزاعم يتجاهلون حقيقة لغوية أساسية: أن المسجد الأقصى معرف بالألف واللام، ما يدل على أنه مكان معروف ومحدد في وجدان المسلمين منذ نزول الوحي”. المؤرخ الفلسطيني عبد القادر ياسين يؤكد أن هذه المزاعم حديثة العهد، وتعود جذورها إلى الفكر الاستعماري والصهيوني في القرن العشرين، الذي استهدف تفريغ القدس من قدسيتها وتحويلها إلى مدينة بلا ذاكرة دينية.

 

النصوص القرآنية والأحاديث النبوية قطعية الدلالة على أن المسجد الأقصى في القدس. يقول الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾. وقد أجمع المفسرون منذ القرن الأول الهجري، من ابن عباس والطبري والقرطبي وابن كثير إلى المعاصرين مثل الشعراوي ومحمد الطاهر بن عاشور، على أن المقصود بالمسجد الأقصى هو المسجد الواقع في القدس الشريف، لا غيره. كما جاء في الصحيحين قول النبي ﷺ: “لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى”، وهو نص قطعي على تحديد مكانة الأقصى وموقعه، ولم يختلف فيه أحد من علماء الأمة.

 

 

التاريخ الإسلامي يدعم هذا التحديد أيضًا. فقد دخل الخليفة عمر بن الخطاب القدس سنة 15 هـ بعد معركة اليرموك، وتسلم مفاتيحها من البطريرك صفرونيوس، وأقر العهدة العمرية التي كفلت حرية العبادة وحماية المقدسات. وصلى عمر في موضع المسجد الأقصى القائم اليوم، وأمر بتنظيفه بعد أن كان ملوثًا. ثم أعاد عبد الملك بن مروان بناء المسجد وبنى قبة الصخرة، التي أصبحت أيقونة معمارية إسلامية مترابطة تاريخيًا مع القدس كلها.

 

 

وقد وثّق هذه الوقائع مؤرخون مسلمون ومسيحيون ويهود على حد سواء، من بينهم المقدسي في “أحسن التقاسيم”، واليعقوبي في “تاريخه”، وابن الأثير في “الكامل”، والمؤرخ المسيحي توماس الآرمني الذي كتب في القرن الثامن الميلادي أن المسلمين شيدوا بناءً عظيمًا في موضع الهيكل في القدس يعبدون فيه الله، وهي إشارة دقيقة للمسجد الأقصى.

 

 

الدراسات الأثرية الحديثة تؤكد كذلك هذا الواقع التاريخي. فقد أثبتت بعثات جامعة القدس والمعهد الفرنسي للدراسات الشرقية أن الحرم القدسي يحتوي على طبقات معمارية متعاقبة تعود إلى العصور الأموية والعباسية والفاطمية، مما يثبت استمرارية الوجود الإسلامي فيه منذ القرن الأول للهجرة وحتى اليوم. ولم يُعثر في أي مكان آخر، سواء الجعرانة أو بارق أو الطائف، على آثار لمسجد قديم أو نقوش دينية تشير إلى أنه كان قبلة أو مقصدًا للأنبياء، ما يسقط الادعاءات من أساسها.

 

 

 

وفي هذا السياق العلمي التاريخي، يرى الدكتور صبحي إدريس، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة كفر الشيخ، أن الادعاءات التي تزعم أن المسجد الأقصى لا يقع في القدس بل داخل أراضي المملكة العربية السعودية هي ادعاءات باطلة شكلًا وموضوعًا، لا تستند إلى أي دليل علمي أو أثري أو تاريخي موثوق، وتفتقر إلى المنطق العلمي وتتعارض مع ما استقر عليه المؤرخون عبر العصور.

 

ويُبيّن أن روايات السيرة النبوية نفسها تنقض هذه المزاعم؛ فحين أخبر النبي ﷺ قريشًا برحلته المباركة في الإسراء والمعراج إلى المسجد الأقصى، كان استنكارهم مبنيًا على معرفتهم ببعد المسافة، إذ قالوا: نقطعها شهرًا ذهابًا وشهرًا إيابًا. وهذا وحده دليل قاطع على أن المقصود مكان بعيد عن الحجاز، وليس بين مكة والمدينة أو في الطائف كما يزعم البعض.

 

ولو كان المسجد الأقصى في الحجاز، لانتفى سبب الدهشة والاستغراب عند قريش، فالمسافة بين مكة والمدينة تقارب 400 كيلومتر، وتُقطع في نحو ثمانية أيام بالإبل، وفي ثلاثة إلى أربعة أيام بالخيل السريعة، أما المسافة بين مكة والطائف فتبلغ نحو 100 كيلومتر، وتُقطع في يوم إلى يومين فقط، وهو ما لا يتناسب إطلاقًا مع وصف الرحلة العجيبة الذي ورد في كتب السيرة والتاريخ.

 

ويضيف أن جميع المصادر التاريخية الموثوقة، مثل الطبري وابن الأثير وابن كثير، تشير بوضوح إلى أن الرحلة كانت إلى بيت المقدس في فلسطين، وأن المسجد الأقصى في القدس موثق تاريخيًا ومعماريًا وله تاريخ بناء معروف منذ عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، كما أن قبة الصخرة تُعد شاهدًا أثريًا بارزًا على أصالة الموقع في القدس الشريف، مؤكدًا أن هذا الثبوت التاريخي يقطع أي جدل حول مكانه.

 

 

كما يشير إلى أن من يتحدث عن وجود المسجد الأقصى في السعودية لا يستطيع أن يحدد موقعه أو يقدم دليلاً أثريًا واحدًا يثبت وجوده هناك، إذ لا توجد أي إشارة تاريخية أو أثرية لمكان بهذا الاسم في الجزيرة العربية، بينما الأقصى في فلسطين مذكور ومشهود عليه بآثاره ومعالمه وتاريخه المعروف.

 

ويرى أن مثل هذه المزاعم لا تستند إلى بحث علمي حقيقي، بل تهدف إلى إثارة الجدل والبروباغندا الإعلامية، وأن هناك من يسعى إلى الشهرة على حساب الحقائق التاريخية الراسخة، متناسيًا أن هذه القضايا ترتبط بثوابت الأمة ومقدساتها. فالتاريخ لا يعرف إلا حقيقة واحدة، وهي أن المسجد الأقصى هو الذي بارك الله حوله في أرض فلسطين، وكل قول بخلاف ذلك هو تزييف صريح للواقع ومخالفة لما أجمع عليه المؤرخون والعلماء.

 

 

 

خطورة هذه الموجة لا تكمن في مضمونها فقط، بل في تأثيرها على وعي الأجيال الجديدة. فحين يتحول الأقصى إلى مجرد موضوع قابل للنقاش، يضعف شعور المسلمين بقداسته، ويصبح الدفاع عنه خيارًا سياسيًا لا التزامًا دينيًا.

 

وقد حذر المفكر طه عبد المقصود من أن “سحب القداسة من المكان يسحب المشروعية من المقاومة”، مؤكدًا أن هذه المزاعم أدوات للتطبيع الذهني مع الاحتلال.

 

انتشار الشبهات على المنصات الحديثة كان واضحًا

 

فقد انتشرت مقاطع فيديو وخرائط وصور مزيفة تزعم وجود الأقصى في أماكن مختلفة، وبلغت بعض هذه المقاطع مئات الآلاف من المشاهدات، ما يعكس حجم التأثير على الشباب.

 

كما ظهرت مجموعات على مواقع البحث المفتوح تحمل أسماء مثل “جغرافيا النصوص القرآنية” و”القراءة الجديدة للقدس”، تضم أفرادًا غير متخصصين يسعون لإضفاء طابع علمي على ادعاءات زائفة، ما يسلط الضوء على خطورة الفضاء الرقمي في تشكيل وعي الشباب دون رقابة علمية.

 

وقد تصدى لهذه الادعاءات كبار العلماء والمفكرين. فقد أكد الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، أن القول بوجود المسجد الأقصى في غير القدس “خرافة لا أصل لها في الدين أو التاريخ”، مشيرًا إلى أن “الأقصى جزء من عقيدة كل مسلم، والتشكيك في موقعه محاولة لتزييف وعي الأمة”. وأوضحت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية أن هذه المزاعم “تتعارض مع نصوص الوحي وإجماع المسلمين، ولا تصدر إلا عن جاهل أو متعمد خدمة لأعداء الإسلام”. وفي الجانب الأكاديمي، كتب الدكتور الشريف محمد الحارثي دراسات مطوّلة دحض فيها التأويلات الجغرافية للنصوص، بينما اعتبر البروفسور عبد الله الفيفي أن “الخلل في هذه المدرسة أنها لا تؤمن بالإجماع العلمي، وتستبدل النقل الموثوق بالتخمين”. وقدّم المؤرخ الدكتور محمد زكي خضر أبحاثًا موثقة تُظهر التطابق الكامل بين أوصاف الأقصى والقدس، مؤكدًا أن “الجدل حول الموقع لم يُعرف قبل محاولات المستشرقين في القرن العشرين”.

 

تؤكد الدراسات الحديثة في مجال النقد التاريخي واللغوي للتوراة أن النص التوراتي لم يُكتب في عهد موسى عليه السلام كما يعتقد كثيرون، بل هو حصيلة قرون طويلة من التدوين والتحرير، تمت بعد عصر موسى بزمن كبير، وتحديدًا بعد السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد. هذه النتائج العلمية تتعارض تمامًا مع الفرضيات التي تزعم أن التوراة كُتبت في الجزيرة العربية أو أن جذورها تعود إلى تلك البيئة، لأن المعطيات التاريخية واللغوية لا تدعم ذلك إطلاقًا.

 

ومن أبرز هذه الدراسات ما قدّمه عدد من الباحثين الغربيين والعرب الذين درسوا النص التوراتي دراسة علمية دقيقة، وأثبتوا من خلال تحليل الأسلوب والمحتوى واللغة أن التوراة لم تكن نتاج كاتب واحد، بل مجموعة من الكتبة والمحررين عبر أزمنة مختلفة.

 

يوليوس فلهوزن – صاحب كتاب مقدمة في تاريخ إسرائيل، وضع ما يُعرف بنظرية المصادر التي تقسم التوراة إلى أربعة مصادر رئيسية: اليهوي، الإلوهي، التثنوي، والكهنوتي. وقد بيّن أن هذه المصادر دُوّنت في فترات تاريخية متباينة وجُمعت لاحقًا في صيغة واحدة. ريتشارد إليوت فريدمان في كتابه The Bible with Sources Revealed أكد أن التوراة جُمعت من نصوص متفرقة وحرّرها كهنة ومؤرخون بعد موسى بقرون. أما جويل س. بادن فجدّد النظرية موضحًا مراحل تحرير النص التوراتي حتى القرنين السادس والخامس قبل الميلاد. كذلك الباحثة مونيكا باييتش في دراستها Authorship of the Pentateuch (2016) أوضحت أن التوراة نص تحريري متراكم. والدراسة الإحصائية الحديثة (2023) استخدمت التحليل اللغوي الحاسوبي لإثبات أن لغة “المصدر الكهنوتي” تختلف عن بقية النصوص، ما يدعم فكرة تعدد الكتّاب.

 

كما قدّم باحثون عرب مثل الدكتور محمد علي إسماعيل البطة دراسة نقدية تؤكد أن التناقضات الزمنية في التوراة دليل على أنها نتاج عصور مختلفة. وتجمع هذه الأبحاث على أن القول بوجود توراة مكتوبة في الجزيرة العربية أو أن الأنبياء جميعًا عاشوا فيها يتنافى مع الحقائق التاريخية واللغوية، إذ لم تكن الكتابة العبرية موجودة زمن موسى، ولم يكن للعرب نظام كتابي موحد قبل القرن العاشر قبل الميلاد. وبذلك يتضح أن ما طرحه كمال الصليبي وأحمد داوود حول أن التوراة والأنبياء كانوا في الجزيرة العربية لا يستند إلى دليل علمي أو أثري موثوق. فالتاريخ لا يُعاد تأليفه بالأهواء، بل يُبنى على الدليل المادي والتحليل العلمي الرصين، ومحاولة جعل الجزيرة أصل كل التاريخ الإنساني رؤية غير واقعية تتجاهل التنوع الحضاري الذي شكّل العالم القديم.

 

وهكذا تتكامل الرؤى مع الموقف العلمي الرافض للموجات الفكرية الجديدة التي تسعى إلى تزوير الجغرافيا الدينية والتاريخية، سواء في شأن المسجد الأقصى أو أصل التوراة، إذ تؤكد هذه الدراسات جميعًا أن التاريخ لا يُعاد كتابته بالرغبات أو التأويلات اللغوية، بل بالمنهج العلمي والحقائق الأثرية الموثقة.

 

وقد ذكر محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، المعروف بالواقدي، والذي يعد من المؤرخين الأوائل الذين تركوا بصمة واضحة في كتابة التاريخ الإسلامي والسير والمغازي. كان من أهل المدينة المنورة، واشتهر بمعرفته الواسعة بأخبار الفتوحات، لا سيما فتوحات الشام وفلسطين والعراق، ثم انتقل إلى بغداد، حيث تولى القضاء وارتبط اسمه بتدوين الأحداث الكبرى في صدر الإسلام. ورغم غزارة علمه وسعة روايته، فقد أثار الواقدي جدلاً واسعًا بين علماء الحديث والمؤرخين؛ إذ اختلفت مكانته باختلاف زاوية النظر إليه. فالمحدثون ضعّفوه وعدّوه غير موثوق في الرواية الحديثية، لما عُرف عنه من كثرة المراسيل والاختلاط في الأسانيد، حتى قال فيه الإمام أحمد بن حنبل: “هو كذاب يضع الحديث”، وقال البخاري: “متروك الحديث”. بينما رآه آخرون من المؤرخين والباحثين في السير مصدرًا لا يُستغنى عنه لما جمعه من مادة علمية غزيرة، وتفاصيل دقيقة يصعب العثور عليها في غيره، مما جعل مؤرخين كبارًا كابن سعد، والبلاذري، والطبري ينقلون عنه ويعتمدون على رواياته، مع التحفظ النقدي اللازم.

 

وقد تناول الواقدي في رواياته أخبار فتح بيت المقدس والمسجد الأقصى بقدر من التفصيل التاريخي، مما جعله أحد أوائل من وثّقوا المشهد المقدسي بعد الفتح الإسلامي.

 

فبحسب ما أورده في “كتاب المغازي” وما نقل عنه اللاحقون، فإن فتح القدس تم في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 15 هـ / 636 م، بعد حصارٍ استمر عدة أشهر، انتهى باتفاقٍ سلميّ مع أهل المدينة وتسليم مفاتيحها للخليفة نفسه.

 

ويصف الواقدي مشهد قدوم عمر بن الخطاب إلى المدينة بدقة، حيث خرج لاستلام المفاتيح من البطريرك صفرونيوس، وكان يرتدي ثوبًا بسيطًا ويحمل في يده عصاه، مما يعكس الصورة المهيبة للتواضع والعدل الإسلامي الذي تميز به الفتح.

 

أما بشأن المسجد الأقصى، فتورد روايات الواقدي أن المكان حينها كان مطمورًا بالأتربة والأنقاض، وقد أمر عمر رضي الله عنه بتنظيفه، وحدد موضع القبلة فيه، ثم أقام مصلى بسيطًا من الخشب يسع بضعة آلاف من المصلين. هذا الفعل الرمزي كان بمثابة إعلان عن استعادة قدسية المكان وربطه بالموروث الإسلامي منذ رحلة الإسراء والمعراج.

 

ويذكر الواقدي أن ذلك المصلى ظل قائمًا إلى أن جاء العصر الأموي، فقام الخليفة عبد الملك بن مروان، ومن بعده ابنه الوليد، بإعادة بناء المسجد الأقصى وقبة الصخرة في صورة معمارية فخمة أصبحت رمزًا خالدًا للعمارة الإسلامية في القدس.

 

وتكمن أهمية روايات الواقدي هنا في أنها تُعد من أقدم النصوص التي تناولت مراحل الانتقال من الفتح العسكري إلى التأسيس الديني والعمراني في القدس، وهو ما يمنحها بعدًا حضاريًا يتجاوز الحدث السياسي إلى رسم ملامح الهوية الإسلامية للمكان. غير أن هذه القيمة لا تُغني عن التثبت العلمي، فالروايات التاريخية لدى الواقدي تحتاج إلى المقارنة بالمصادر الأخرى مثل تاريخ الطبري وفتوح البلدان للبلاذري، للتأكد من تماسك الأحداث وتسلسلها الزمني.

 

 

وخلاصة القول في الواقدي أنه مؤرخ واسع الاطلاع، أسهم في حفظ جانب كبير من ذاكرة التاريخ الإسلامي، لكن ضعف روايته الحديثية جعله مثار تحفظ عند العلماء. فهو ليس من رجال الإسناد في الحديث، لكنه من أعمدة الرواية التاريخية في الإسلام. ومن الإنصاف أن يُؤخذ عنه ما اتصل بالتاريخ والسير، مع مراعاة النقد والمقارنة، لأن في رواياته كثيرًا من التفاصيل التي تُضيء ماضي الأمة وتكشف عن عمق التجربة الإسلامية في إدارة الفتوحات وبناء الحضارة.

 

 

وفي ختام هذا العرض التحليلي، يتضح أن المعركة حول المسجد الأقصى لم تعد مجرد صراع على الجغرافيا، بل على الوعي ذاته. إنها محاولة منظمة لإعادة تشكيل الإدراك التاريخي والديني للمسلمين، عبر استبدال الحقائق الراسخة بتأويلات لغوية ومرويات مشوهة.

 

 

وفي مواجهة ذلك، برز الاتجاه العلمي العربي والإسلامي بثبات ووعي، مؤكدًا أن التاريخ لا يُكتب بالظنون، ولا تُلغى الجغرافيا بالعواطف، وأن قدسية القدس ليست مسألة قابلة للمراجعة، بل حقيقة موثقة بالعقل والنقل والأثر

 

 

وهكذا يبقى المسجد الأقصى شاهدًا خالدًا على وحدة العقيدة والتاريخ والهوية، ومركزًا ثابتًا في ضمير الأمة، مهما حاولت موجات التشويه والتزييف أن تطمس نوره، فـ القدس كانت وستبقى قلب الإسلام النابض، وعنوانًا للوعي الذي لا يُختزل، ولا يُزاح عن مكانه، وأن الدفاع عن الحقيقة التاريخية هو دفاع عن الوعي الجمعي للأمة وذاكرتها الحضارية.

الشريف خالد الأبلج

مفكر ومؤرخ وباحث في التاريخ الإسلامي .. وعضو الرابطة العلمية العالمية للأنساب الهاشمية

طباعة الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تنويه
• تتم مراجعة جميع التعليقات، وتنشر عند الموافقة عليها فقط.
• تحتفظ " فيلادلفيا نيوز" بحق حذف أي تعليق، ساعة تشاء، دون ذكر الأسباب.
• لن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة، أو خروجا عن الموضوع محل التعليق، او يشير ـ تصريحا أو تلويحا ـ إلى أسماء بعينها، او يتعرض لإثارة النعرات الطائفية أوالمذهبية او العرقية.
• التعليقات سفيرة مرسليها، وتعبر ـ ضرورة ـ عنهم وحدهم ليس غير، فكن خير مرسل، نكن خير ناشر.
HTML Snippets Powered By : XYZScripts.com