فيلادلفيا نيوز
كلنا يعرف أن الرقابة على أعمال أجهزة السلطة التنفيذية تختلف مسمياتها بإختلاف الهيئات التي تمارسها، وقد قسمت نتيجة ذلك إلى ثلاثة أنواع من الرقابة لا تتعارض ولا تتضاد ولا يعتبر أيا منها بديلا احتياط للأخرى، إذ لكل منها ساحتها المستقلة وتمارس مهامها بالتزامن مع شقيقاتها، حيث ظهرت ومع تطور الدول عموما الرقابة الإدارية والرقابة القضائية إضافة لأهم وأول أنواعها ظهورا ألا وهي الرقابة الشعبية، وهي مدار هذه العجالة لعلة إختلافها عن تلك الأنواع من حيث ماهية الرقابة وهدفها ومصدرها ومن حيث آلياتها والآثار المترتبة عليها، والتي ولعلة أنها نابعة كما يظهر من مسماها من الشعب فقد سعت العديد من الدول إلى وضعها في قالب قانوني بغية تنظيمها لضمان تفادي وقوع إرباكات سياسية أو إدارية في الدولة مما يُعيق عمل أجهزة السلطة التنفيذية.ومن الطبيعي يقينا أن هذا التنظيم القانوني يختلف من دولة إلى أخرى تبعاً لظروفها التاريخية والسياسية وبنيتها المجتمعية والثقافية ومدى تقبلها لممارسة شعوبها للعمل الديمقراطي المباشر بدوافع مختلفة يستند بعضها للصعوبات الفنية والعلمية التي تقف حائلاً في طريق تطبيق نظام الديمقراطية المباشرة، فظهرت الديمقراطية غير المباشرة حيث يقوم الشعب بانتخاب ممثليه في البرلمان، ولما ظهرت عيوب هذا النوع من الرقابة الشعبية (الديمقراطية غير المباشرة) سعت بعض الدول إلى العودة للرقابة الشعبية بصورة قابلة للتطبيق فظهر مبدأ الاستفتاء الشعبي تزامنا مع البرلمان وقد سميت هذه الصورة من الرقابة الشعبية بالديمقراطية شبه المباشرة وغايتها أخذ رأي الشعب حول موضوع محدَّد بدقة وذلك وفق إجراءات شكلية محدّدة في القوانين والأنظمة، بل وأكثر ظهر ما يسمى بالاقتراح الشعبي ويمتاز هذا النوع عن الاستفتاء بالقوة الملزمة للقرار لعلة صدوره المباشر عن الشعب، خلاصة القول أنه وبرغم أهمية تلك البرلمانات كصورة من صور الرقابة الشعبية إلا أن دور الشعب في التدخل في الشأن العام والتدخل في أعمال الدولة رقابة ومتابعة لا ولن يتوقف عند نقطة إنعقاد البرلمان بل هو دور مستمر يعلو دور البرلمان لعلة أنه الأصل والفرع يتبع والتابع لا يفرد بحكم ولا يتقدم أصله.
ودليل هذا القول أن آليات الرقابة الشعبية قد تمثلت بثلاث هي الرأي العام وهو مجموعة أراء المواطنين الذين يتعاطون مع الشأن العام وأراء مؤسسات المجتمع المدني من نقابات وجمعيات ومنظمات أهلية بخصوص موضوعات معينة تتعلق بمصالحهم العامة والخاصة، وثانيها الأحزاب السياسية والتي تتشكل من إتحاد المواطنين في تلك المؤسسة لغايات الممارسة النفوذ الدائم عملية صنع الإرادة السياسية، وتتجلى مشاركة الأحزاب مشاركة للشعب في صنع القرار السياسي، وثالثها وأهمها الإعلام لما يحمل من دور مهم في المساهمة في تنبيه الرأي العام من خلال كتابات المفكرين والصحف والفضائيات المرئية والمسموعة والاجتماعات والندوات التي تسهم في إطلاع الشعب على المشاكل الأكثر إلحاحاً التي يتعرض لها مجتمعه، وهو بذلك يكون مراقباً ً لمصلحة الشعب من خلال انتقاد سياسات الحكومات وكشف فساده إن وجد وانتهاكها لسيادة القانون.
لأجل ذلك كله تعد الرقابة الشعبية الضمانات الأساسية قبل شقيقاتها لتطبيق القواعد الدستورية وحماية حقوق الأفراد وحرياتهم، وهي من حيث المبدأ ضمانة واقعية تضاف إلى الضمانات القانونية (الرقابة الإدارية والقضائية) التي تعجز عن توفير الحماية اللازمة للدستور واحترام الأفراد وحرياتهم وهنا وحتى لا يقال أن الكاتب يتهم القضاء بالعجز فإنني أشير إلى أن القضاء مقيد بحماية مبدأ المشروعية من خلال الدعاوى التي يرفعها الأفراد المتضررون من تصرفات الإدارة، مما يفرض العجز الذي أقول فيه حال عدم رفع مثل تلك الدعاوى إذ لا يملك القضاء التدخل من تلقاء نفسه.
غير أن نجاح الرقابة الشعبية وعبر آلياتها الثلاث الرأي العام والأحزاب والإعلام في ممارسة دورها الرقابي عن طريق طرح أفكارها والدعوة إليها في مختلف الوسائل التي تقوم الصحافة وسائر وسائل الإعلام السمعية والبصرية في نشرها، إنما هو مشروط بكفالة حرية التعبير عن الرأي نصاً وعملاً، وعدم الخضوع لمصالح فئات معينة تسخِر الإرادة الشعبية والرأي العام لتحقيق أهدافها الخاصة، مما يتطلب وعلى الدوام إعادة هيكلية الرقابة الشعبية وبنائها من خلال تجذير الوطنية والمواطنة ونشر الوعي بالمسؤولية لدى المواطن وتوسيع قاعدة الاتصال والتواصل وبتر شروط التسلط والتعسف والفساد، إذ الرقابة الشعبية ومتابعتها كما سبق ليس حكراً على أحد، بل أن الكثير من الدول المعاصرة قد عدت الرقابة الشعبية مشروعاً تنموياً ضخماً يحقق جدواه السياسية والاقتصادية والمالية وبالتالي فإن الإنفاق المالي على هذا المشروع يعد إنفاقاً استثمارياً بامتياز بالنظر إلى العوائد الضخمة التي سيحققها، مما يستوجب أن يكون انتقاد العمل العام من خلال الصحافة أو غيرها من وسائل التعبير وأدواته حقاً مكفولاً لكل مواطن، وأن يتم التمكين لحرية عرض الآراء وتداولها بما يحول- كأصل عام- دون إعاقتها أو فرض قيود مسبقة على نشرها، حرية يقتضيها النظام الديمقراطي ، ليس مقصوداً بها مجرد أن يعبر الناقد عن ذاته، بل غايتها النهائية الوصول للحقيقة من خلال ضمان تدفق المعلومات من مصادرها المتنوعة، وعبر الحدود المختلفة، وعرضها في آفاق مفتوحة سواء توافقت حولها الآراء في بعض جوانبها أو تصادمت في جوهرها ليظهر ضوء الحقيقة جلياً من خلال مقابلتها ببعض، وقوفاً على ما يكون منها زائفا أو صائباً، منطوياً على مخاطر واضحة أو محققا لمصلحة مبتغاه.
وعليه فمن غير المقبول أو حتى المحتمل أن يكون انتقاد الأوضاع المتصلة بالعمل العام تبصيراً بنواحي التقصير فيه، مؤدياً إلى الإضرار بأية مصلحة مشروعة، وليس جائزاً أن يكون القانون أداة تعوق حرية التعبير عن مظاهر الإخلال بأمانة الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة أو مواطن الخلل في أداء واجباتها، ذلك أن ما يميز العقد الاجتماعي (الوثيقة الدستورية) ويحدد ملامحه الرئيسية هو أن الحكومة خاضعة لمواطنيها، وكلما نكل القائمون بالعمل العام- تخاذلاً أو إنحرافاً – عن حقيقة واجباتهم مهدرين الثقة العامة المودعة فيهم، كان تقويم إعوجاجهم حقاً وواجباً مرتبطاً ارتباطاً عميقاً بالمباشرة الفعالة للحقوق التي ترتكز في أساسها على المفهوم الديمقراطي لنظام الحكم، ويندرج تحتها محاسبة الحكومة ومساءلتها وإلزامها مراعاة الحدود والخضوع للضوابط التي فرضها الدستور عليها.
وعودة على مشروع قانون الجرائم الالكترونية وما حوى من عقوبات مغلظة فإن المطلوب قانونا ودستورا إجراء حوار مفتوح حول المسائل العامة ، ليكون ضماناً لتبادل الآراء على اختلافها كي ينقل المواطنون علانية تلك الأفكار التي تجول في عقولهم- ولو كانت السلطة العامة تعارضها- إحداثاً من جانبهم وبالوسائل السلمية لتغيير قد يكون مطلوباً، إذ النتائج الصائبة دوما هي حصيلة الموازنة بين آراء متعددة جرى التعبير عنها في حرية كاملة، وإن من الخطر فرض قيود ترهق حرية التعبير بما يصد المواطنين من ممارستها، وأن الطريق إلى السلامة القومية إنما يكمن في ضمان الفرص المتكافئة للحوار المفتوح لمواجهة أشكال من المعاناة – متباينة في أبعادها- وتقرير ما يناسبها من الحلول النابعة من الإرادة العامة، ومن ثم كان منطقياً، بل وأمراً محتوماً أن ينحاز الدستور إلى حرية النقاش والحوار في كل أمر يتصل بالشأن العام، ولو تضمن انتقاداً حاداً للقائمين بالعمل العام، إذ لا يجوز لأحد أن يفرض على غيره صمتاً ولو كان معززاً بالقانون، ذلك أن حوار القوة إهدار لسلطان العقل، ولحرية الإبداع والأمل والخيال، وهو في كل حال يولد رهبة تحول بين المواطن والتعبير عن آرائه، بما يعزز رغبة السلطة في قمعه، ويكرس عدوان السلطة العامة لكل المناوئين لها، وبما يهدد في النهاية أمن الوطن واستقراره، مما يشف عن عوار دستوري طال مشروع القانون، ومن هنا نقول لا للقيود على حق الناس في الكلام، نعم للتمكين ضمن ضوابط لا إنفلات فيها، إذ الموازنة بين الحق والواجب غاية النصوص وإن هي خرجت عن غايتها وجعلت الجباية للمال هدفا تأكد عوارها الدستوري الذي أوضحنا مقصوده، وهي مناشدة إلى جلالة الملك المفدى لرد مشروع القانون وعدم إقرانه بالإرادة الملكية السامية ولسبق تشجيعه للشباب برفع أصواتهم.