الثلاثاء , أكتوبر 21 2025 | 6:24 م
الرئيسية / كتاب فيلادلفيا / العالم الثالث بين إرث التبعية وفرص الصعود في النظام العالمي الجديد

العالم الثالث بين إرث التبعية وفرص الصعود في النظام العالمي الجديد

فيلادلفيا نيوز

م. سعيد بهاء المصري

المقدمة: نظام عالمي يتغيّر ولكن ببطء
يشهد العالم اليوم مرحلة انتقالية عميقة لا تشبه أيًّا من التحولات السابقة منذ الحرب العالمية الثانية. فالنظام المالي والاقتصادي الذي تشكّل بقيادة الغرب بعد عام 1945 بدأ يفقد قدرته على ضبط إيقاع الاقتصاد العالمي. الديون المتراكمة، والشيخوخة الديموغرافية، وتضخم شبكات الرفاه الاجتماعي في الدول المتقدمة، جعلت الاقتصادات الغربية أكثر هشاشة مما تبدو عليه.
في المقابل، تسعى دول العالم الثالث إلى التحرر من دوائر التبعية التي كبّلتها لعقود طويلة، ولكنها تجد نفسها محاطة ببدائل لا تزال في طور التشكّل وغير مضمونة النتائج. وبينما تتراجع الثقة بالمؤسسات الغربية التقليدية كصندوق النقد والبنك الدولي، يبرز السؤال المركزي:
هل يستطيع الجنوب العالمي أن يبني استقلاله الاقتصادي في ظل غياب توازن واضح بين القوى الكبرى، أم أنه سيبقى في حالة «انتظار هيكلي» رهينةً لتحولات الآخرين؟
الواقع الراهن: أعباء الديون واختناق التنمية
رغم مرور أكثر من نصف قرن على استقلال معظم دول العالم الثالث، إلا أن هياكلها الاقتصادية لا تزال تعكس نموذج التبعية الكلاسيكي: تصدير المواد الخام واستيراد السلع المصنعة، مع اعتماد مزمن على القروض الخارجية لتغطية العجز المالي.
تُظهر البيانات الحديثة أن أكثر من ثلث الدول النامية تنفق ما بين 30% إلى 50% من إيراداتها العامة على خدمة الدين الخارجي، ما يترك أثرًا خانقًا على التنمية ويحدّ من قدرة الدولة على الاستثمار في التعليم والصحة والبنية التحتية.
تفاقمت الأزمة بعد جائحة كوفيد-19 وارتفاع أسعار الفائدة عالميًا، ما رفع كلفة الاقتراض بشكل غير مسبوق. ومع تضخم مستورد ناجم عن ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، تآكلت العملات المحلية وتراجعت القوة الشرائية للفئات الوسطى والفقيرة.

اجتماعيًا، تآكلت الطبقة الوسطى، وازدادت فجوات الدخل، وارتفع منسوب الغضب الشعبي، بينما زاد الفساد المؤسسي من هشاشة الحكم الرشيد. وهكذا أصبح كثير من الدول النامية عالقة في دائرة مفرغة: لا تستطيع النمو دون التمويل الخارجي، ولا تحصل على التمويل إلا بشروط تقوّض قدرتها على النمو.
الكتل الاقتصادية الجديدة: بين الطموح والتسييس
في ظل تراجع الثقة بالنظام الغربي، ظهرت خلال العقدين الماضيين كتل اقتصادية جديدة مثل بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون وآسيان وغيرها.
وقدّمت هذه الكيانات نفسها بوصفها بدائل محتملة لكسر الهيمنة الغربية، لكن معظمها لا يزال يفتقر إلى حوكمة مؤسسية ومالية راسخة.
تدار هذه الكتل، في الغالب، بإرادة سياسية من الأعلى لا بإرادة اقتصادية من القاعدة. فهي تعكس مصالح الدول الكبرى داخلها أكثر مما تمثل مصالح الأعضاء الصغار. وبذلك تظل أقرب إلى تحالفات سياسية هلامية من كونها تكتلات اقتصادية فاعلة.
هذا التسييس الزائد يثير شكوك الدول النامية التي تبحث عن بدائل تنموية واقعية. فهي لا تريد استبدال تبعيةٍ غربيةٍ بتبعيةٍ شرقيةٍ جديدة، بل تسعى إلى استقلال اقتصادي متوازن.
لكن غياب مؤسسات مالية موحدة وآليات حوكمة شفافة يجعل من الصعب على هذه الكتل أن تتحول إلى مظلة استثمارية حقيقية.
التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي: وعود النمو ومخاطر الإقصاء
التحول الرقمي أصبح العنوان الأكبر للثورة الاقتصادية الجديدة، لكنه بالنسبة للدول النامية يحمل وجهين متناقضين. فهو من جهة أداة واعدة لزيادة الكفاءة، لكنه من جهة أخرى تهديد اجتماعي واسع إذا لم يصاحبه إصلاح في التعليم والعمل والتأمين الاجتماعي.
1. فقدان الوظائف وتسارع البطالة التقنية
مع توسع استخدام الذكاء الاصطناعي في المصارف، النقل، التعليم، والخدمات، تتسارع وتيرة استبدال العمل البشري بالآلي. وفي الاقتصادات التي تعتمد على القطاع العام والخدمات كثيف العمالة، يمكن أن يؤدي هذا التحول إلى تسريح مئات الآلاف خلال سنوات قليلة.
2. الضغط على شبكات الأمان الاجتماعي
كل تسريح يعني عبئًا إضافيًا على صناديق التقاعد والتأمين. وفي ظل عجز الموازنات، ستواجه الحكومات معضلة بين دعم الفئات المتضررة أو الالتزام بإصلاح مالي صارم يفاقم البطالة. لذا فإن استمرار الشبكات الحالية بصيغتها التقليدية سيجعلها غير قابلة للاستدامة ماليًا في ظرفٍ لا يتجاوز عقدًا من الزمن.
3. فجوة المهارات والتفاوت الاجتماعي
يخلق التحول الرقمي فجوة جديدة بين من يمتلك المهارة التقنية ومن لا يمتلكها، مما يعمّق الفوارق الطبقية. ويظهر جيل من «العاطلين المتعلمين» الذين لا يجدون وظائف تناسب مهاراتهم التقليدية.
4. الحلول الوقائية المطلوبة
لمواجهة هذه الموجة، تحتاج الدول النامية إلى سياسات مزدوجة تقوم على:
– مواءمة التحول الرقمي مع سياسات توظيف نشطة تخلق وظائف جديدة في قطاعات التكنولوجيا والخدمات الذكية.
– فرض مساهمة رقمية تضامنية على الشركات الكبرى لتمويل التدريب وإعادة التأهيل.
– إشراك القطاع الخاص والجامعات في تحديث التعليم المهني وربطه بحاجات السوق المستقبلية.
5. إصلاح منظومة الأمان الاجتماعي في عصر التحول الرقمي
حتى لا تتحول شبكة الأمان إلى عبء مالي مزمن، يجب أن تتحول إلى منصة اقتصادية مرنة تتفاعل مع سوق العمل الجديد، عبر خمس أدوات رئيسية:
– تحويل الدعم من نمط الإعانة إلى نمط الاستثمار الاجتماعي.
– إعادة تعريف المستفيدين من الشبكة.
– إنشاء صناديق تأمين خاصة بالتحول الرقمي.
– دمج البيانات الوطنية لتحديد الاحتياجات بدقة.
– إشراك القطاع الخاص والمنظمات غير الربحية في تمويل إعادة التأهيل.
بهذه المقاربة، تتحول شبكات الأمان الاجتماعي من عبء إلى رافعة اقتصادية، وتصبح أداة لحماية الانتقال إلى الاقتصاد الرقمي بدل أن تعيقه. فالمسألة ليست في «إعانة العاطلين» بل في «إعادة تشغيلهم ضمن منظومة جديدة»، وهو ما يُبقي كلفة الشبكة ضمن حدودها المستدامة.
فرص الاستقلال الاقتصادي عبر المسار الوطني والإقليمي
يمكن للعالم الثالث أن يخرج من دوامة التبعية عبر التكامل الإقليمي العملي لا الأيديولوجي.
فبدل انتظار تكتلات كبرى غامضة، يمكن للدول المتجاورة أن تتشارك في بناء سلاسل قيمة متخصصة في الطاقة والزراعة والصناعة والخدمات.
تجارب مثل آسيان في آسيا ومجلس التعاون الخليجي والاتحاد الإفريقي تؤكد أن التكامل الاقتصادي القائم على المصلحة لا السياسة يمكن أن ينتج استقرارًا نسبيًا ونموًا متدرجًا.
لكن نجاح هذا المسار يتطلب مؤسسات تنفيذية قوية وقدرة على ضبط الأولويات الوطنية في إطار تعاون مشترك طويل الأمد.
المسار الداخلي: بناء القدرة لا استبدال التبعية
التحرر من التبعية لا يتحقق بالانضمام إلى تحالفات جديدة فقط، بل يبدأ من الداخل.
فالدولة التي لا تمتلك قاعدة إنتاجية ومالية قوية ستبقى رهينة التمويل الأجنبي، مهما غيّرت شركاءها.
يتطلب الإصلاح الداخلي:
– هيكلة الموازنات لتقليص النفقات الجارية وتوجيهها للاستثمار المنتج.
– بناء نظام ضريبي عادل ومستقر.
– تطوير الحوكمة ومكافحة الفساد.
– تمكين القطاع الخاص ليكون شريكًا حقيقيًا في التنمية لا تابعًا للحكومة.
– رقمنة الإدارة العامة لتصبح أداة إنتاج ومعرفة لا بيروقراطية عائقة.
بهذا فقط يمكن الانتقال من «اقتصاد يستهلك ما ينتجه غيره» إلى «اقتصاد ينتج ما يحتاجه هو وغيره».
مرحلة الجاذبية الاستثمارية في مسار نضوج الاقتصاد النامي
لا يمكن لأي دولة نامية أن تجذب استثمارات نوعية قبل أن تصل إلى مرحلة معينة من النضج المالي والإنتاجي.
فالمستثمر الأجنبي لا يبحث فقط عن سوق كبيرة أو موارد خام، بل عن قدرة إنتاجية تنافسية ومستقرة تتيح له تحقيق عائد آمن طويل الأمد.
تتكون هذه القدرة عبر خمس مراحل متتابعة:
1. مرحلة الاستقرار المالي والإداري
2. مرحلة بناء القدرة الإنتاجية واستغلال الميزة النسبية
3. مرحلة تعزيز التنافسية والتكامل الإقليمي (وهنا تبدأ جاذبية الاستثمار الفعلية)
4. مرحلة الاقتصاد المبتكر والرقمي
5. مرحلة التوازن بين النمو والعدالة الاجتماعية
الخلاصة: تبدأ جاذبية الاستثمار الفعلية عند اكتمال المرحلة الثانية والدخول في الثالثة، أي بعد أن تحقق الدولة استقرارًا ماليًا وهيكليًا وتنافسية في سلعها وخدماتها. حينها فقط يصبح رأس المال الأجنبي شريكًا في الإنتاج لا مستفيدًا من الريع.
المعادلة الواقعية: شراكات متوازنة لا محاور جديدة
ليس من الواقعية أن تخرج الدول النامية من النظام الغربي لتقع في تبعية شرقية جديدة.
البديل هو إقامة شراكات متوازنة متعددة الاتجاهات تقوم على المنفعة المتبادلة لا الولاء السياسي.
فالعالم يتجه نحو شبكة مصالح متداخلة، لا محاور مغلقة.
السياسات الذكية هي تلك التي تنوّع الشركاء وتوحد الاستراتيجية: أي أن تبقى الدولة مستقلة في قرارها الاقتصادي، لكنها منفتحة على الجميع.
الخاتمة التحليلية: الجنوب العالمي بين الحلم والممكن
لن ينهار الغرب سريعًا، ولن يصعد الجنوب فجأة؛ فالتاريخ لا يقفز بل يتراكم.
ومهما تغيّرت مراكز القوة، فإن جوهر التفوق سيبقى في يد من يمتلك التكنولوجيا والمعرفة والمؤسسات المستقرة.
إن الطريق أمام دول العالم الثالث ليس في الانضمام إلى هذا المعسكر أو ذاك، بل في بناء ذاتها أولًا:
اقتصاد منتج، مالية منضبطة، وعدالة اجتماعية رقمية تواكب تحولات الذكاء الاصطناعي.
وعندما يتحقق ذلك، ستتحول هذه الدول من «أطراف تابعة» إلى مراكز فاعلة في النظام العالمي الجديد ليس لأن الغرب تراجع، بل لأنها أخيرًا امتلكت أدوات التقدم بنفسها.

طباعة الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تنويه
• تتم مراجعة جميع التعليقات، وتنشر عند الموافقة عليها فقط.
• تحتفظ " فيلادلفيا نيوز" بحق حذف أي تعليق، ساعة تشاء، دون ذكر الأسباب.
• لن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة، أو خروجا عن الموضوع محل التعليق، او يشير ـ تصريحا أو تلويحا ـ إلى أسماء بعينها، او يتعرض لإثارة النعرات الطائفية أوالمذهبية او العرقية.
• التعليقات سفيرة مرسليها، وتعبر ـ ضرورة ـ عنهم وحدهم ليس غير، فكن خير مرسل، نكن خير ناشر.
HTML Snippets Powered By : XYZScripts.com