فيلادلفيا نيوز
تشكل أزمة غلاء أسعار الأدوية في الأردن هاجساً يومياً للمواطن وصانع القرار على حد سواء. لقد أصبحت الصيدليات مصدر رعب للكثيرين، حيث تفوق أسعار العديد من الأدوية في المملكة نظيراتها في دول الجوار مثل مصر وتركيا بعشرة أضعاف في بعض الأحيان، هذه الفجوة السعرية الهائلة تضع عبئاً ثقيلاً على كاهل المواطن والقطاع الصحي، وتستدعي تدخلاً عاجلاً وشاملاً لإيجاد حلول عملية.
لطالما سمعنا عن الفوارق السعرية، لكنها تصبح قاسية عندما تعيشها شخصياً، أحد الأدوية التي أستخدمها بانتظام لعلاج مرض مزمن اشتريته في عمان بثمانية دنانير للعبوة ، و في زيارة عمل لي إلى القاهرة، سألت عن سعره فكان 90 جنيهاً مصرياً، أي ما يعادل حوالي 80 قرشاً أردنياً! نفس الشركة، نفس التركيبة، نفس العبوة، لكن الثمن في الأردن يعادل عشرة أضعاف سعره في مصر، هذه الحادثة تختزل مأساة آلاف الأردنيين الذين يدفعون من صحتهم وجيوبهم ثمناً باهظاً لعلاج أمراضهم.
تعود أسباب هذه الهوة السعرية إلى عدة عوامل. أولاً، اعتماد الاردن شبه الكلي على استيراد المواد الفعالة (الخامة) والمنتجات الدوائية النهائية، مما يعرضها لتقلبات أسعار الصرف وتكاليف الشحن والضرائب والرسوم الجمركية. ثانياً، هيكل سوق الدواء الذي تهيمن عليه عدد محدود من الشركات العالمية، مما يحد من المنافسة ويسمح بتحديد أسعار مرتفعة. في المقابل، تتمتع دول مثل مصر بوجود قاعدة صناعية دوائية محلية قوية وتدعم الدولة أسعار المواد الخام، مما يمكنها من إنتاج أدوية بأسعار تنافسية.
لا تقتصر تداعيات هذه الأزمة على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تمتد لتطال الجانبين الصحي والاجتماعي، كثير من المرضى، خاصة أصحاب الأمراض المزمنة، يضطرون للتقليل من جرعات الدواء أو التخلي عن علاجات أساسية، مما يعرض صحتهم للخطر ويزيد من المضاعفات على المدى الطويل، كما تزداد الأعباء المالية على الأسر محدودة الدخل، مما يدفعها إلى حافة الفقر أحياناً.
لمواجهة هذه الأزمة، يمكن الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة وطرح حلول استراتيجية منها : التعاون والشراء الإقليمي الموحد من خلال دخول الأردن في شراكات مع دول ذات تعداد سكاني عالي مثل مصر لإنشاء كتلة شرائية موحدة، هذا النموذج أثبت نجاحه في دول الاتحاد الأوروبي الذي يتفاوض بشكل جماعي لشراء اللقاحات والأدوية بأسعار مخفضة. في أمريكا اللاتينية، طبقت دول مثل الأرجنتين والبرازيل سياسة “شراء الأدوية بالإجماع” مما خفض التكاليف بنسبة تصل إلى 40%. . الامر الاخر يتمثل بتعزيز الصناعة الدوائية المحلية، يجب تشجيع الشركات المحلية على تصنيع الأدوية باهظة الثمن، تجربة الهند خير دليل على نجاعة هذه الاستراتيجية ، حيث أصبحت الهند “صيدلية العالم الفقير” بفضل سياسات حكومية داعمة للصناعات الدوائية المحلية (الأدوية الجنيسة) وحماية براءات الاختراع بطرق ذكية تخفض الأسعار دون المساس بالجودة. ولا نغفل هنا ضرورة تفعيل دور المؤسسة العامة للغذاء والدواء، يمكن للمؤسسة، بالاستناد إلى تجربة هيئة الدواء المصرية، أن تلعب دوراً محورياً في مراجعة هيكلة الأسعار بشكل دوري، وإجبار الموردين على تبرير الفوارق السعرية، وتسريع تسجيل الأدوية الجنيسة المماثلة في الجودة والأرخص في السعر لخلق منافسة. ضرورة مراجعة السياسات الضريبية والجمركية من خلال إلغاء أو تخفيض الرسوم على المواد الخام والأدوية الأساسية، كما فعلت جنوب إفريقيا في برنامجها لمكافحة الإيدز، مما جعل العلاج في متناول الملايين. ومن الاستراتيجيات التي اثبتت فعاليتها عالميا ، تعزيز التوعية والرقابة من خلال زيادة التوعية حول البدائل المتاحة وتفعيل دور الصيدلي في توجيه المريض نحو الخيارات الاقتصادية دون المساس بالجودة.
خلاصة الكلام ، أزمة غلاء الأدوية في الأردن ليست قدراً محتوماً، المزيج بين التعاون الإقليمي الذكي (كالشراء الموحد مع مصر)، واستثمار الطاقات المحلية على النمط الهندي، ومراجعة السياسات التنظيمية على نمط جنوب افريقيا، يشكل خريطة طريق واضحة لتحقيق هدف واحد: ضمان حصول كل مريض على الدواء الذي يحتاجه بسعر يمكنه تحمله. إنها معركة صحية واقتصادية واجتماعية لا تحتمل أي تأجيل.
امين عام المجلس الصحي العالي السابق
