الجمعة , يونيو 13 2025 | 11:34 ص
آخر الاخبار
الرئيسية / stop / الدكتور محمد رسول الطراونة يكتب :  الدكتورة الآء النجار .. خنساء العصر في رحم المأساة

الدكتور محمد رسول الطراونة يكتب :  الدكتورة الآء النجار .. خنساء العصر في رحم المأساة

فيلادلفيا نيوز

في غزة، حيث يمتزج دوي الصواريخ بأنين الجرحى، ويذوب بكاء الأطفال في صفير القذائف، تُختبر الإنسانية في أقسى محنها. هنا، تُكتب سيرة الدكتورة الآء النجار بأحرف من صبرٍ يُذهِلُ العقول. طبيبة الأطفال الفلسطينية ، ابنة غزة الصمود ، التي حوّلت فاجعة فقدان أبنائها التسعة وزوجها تحت أنقاض دارهم إلى قوة تُضيء درب الصمود، لتستحق بجدارة لقب “خنساء القرن الحادي والعشرين”، حاملةً في قلبها جرحاً لا يُدرَك، وإرادةً لا تُكسَر. لم تكن مهمتها في مستشفيات غزة المكتظة مجرد علاجٍ للأجساد النحيلة، بل كانت إشعالاً لشموع الأمل في ظلام الحصار والدمار و إنقاذاً لبراءةٍ تختنق تحت الحصار. وسط شحّ الأدوية وانقطاع الكهرباء وزئير الحرب، وقفت الأم والطبيبة كسندٍ أخير لأطفالٍ يذوون من الجوع والرعب ، كانت تمسح دموعهم بيدٍ حانية، وتُواسي خوفهم بقصصٍ عن أبنائها التسعة الذين غذّت فيهم الحلم خلف جدران السجن الكبير. في عيونهم الهاربة من القصف، تبحث عن شبح أطفالها الضائعين، تُنقذ جيلاً يُدفن حياً تحت ركام الحرب.
وفي ليلةٍ سوداء من ليالي غزة العزة والشرف ، بينما كانت الآء تنقذ أطفالاً نازفين في المستشفى، حلّق الموت فوق دارها في حي الرمال، لم تكن الغارة الصاعقة مجرد قذيفة، بل كانت زلزالاً مزق كيانها، في لحظات ، تحول البيت الذي كان يعج بضحكات أبنائها وزوجها الدكتور معن النجار (رفيق دربها في مهنة الطب والإنسانية) إلى ركامٍ يلفّهُ الدخان. عندما هرعت إلى موقع الكارثة، اصطدمت بوجه الموت: أبناؤها التسعة – نور عينيها، زهرة عمرها – قد ارتقوا جميعاً شهداء وهم نيام في فراشهم، لا في ساحة قتال وزوجها صارع الموت لكنه لحق بهم شهيدا، سُلب منها كل معنى للوجود في المكان الذي كان ينبغي أن يكون ملاذ الأمان.
لكن ما جعل قصتها تهزّ الضمير العالمي هو ما تلا الصدمة، لم تنكسر الدكتورة الاء ولم تتراجع في دهاليز الياس ، بل واجهت الفاجعة بإيمانٍ يقطع الصخر وصبر يعيد كتابة معاني الثبات، مُحوّلة حزنها الأمومي الهائل إلى طاقةٍ روحيةٍ جبارة ، تحدثت بصوتٍ يرتجف من الألم لكنه ثابتٌ في العطاء: ” أبنائي شهداء عند الله، ورسالتي لم تنتهِ”. نهضت من بين الرماد لتعود إلى مستشفى الأطفال، كأنها تبحث في عيون صغار غزة عن شبح أبنائها الضائعين مخلدة أبناءها في كل طفلٍ تنقذه من براثن الموت. في مشهدٍ يُعيد إلى الأذهان صبر الخنساء – تُمَاضِرُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ -الأسطورية بعد فقدها أبناءها الأربعة في معركة القادسية وقد قالت “الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته”، ، وقفت الدكتورة الآء كخنساء العصر الحديث. لكن مأساتها تتفجّر ألماً فوق ألم: تسعة أطفال وزوجٌ يُدفنون في حضن الدار، في غرفة النوم التي كانت ملاذهم الآمن. هذه طعنةٌ لا تُحتمل: الموت في الحِجر أقسى من الموت في الميدان. ومع ذلك، كان صمودها مرآةً لتلك الروح الخالدة، وكأنها تُعلن: “الشهادة تحت الأنقاض قدسيةٌ توازي الشهادة في ساحة المعركة”.
ضخامة الفقدان، تمثلت في تسعة أرواح بريئة ، ذُبحوا دفعةً واحدة في حضن الدار. فاجعةٌ نادرةٌ في بشاعتها، تفوق حتى مآسي الحروب القديمة.. ومأساة المكان حيث استهداف الملاذ الآمن – غرفة النوم، سرير الطفل – يضيف طعنة غدرٍ إلى طعنة الفقد، فالموت في الحِجر أقسى من الموت في الميدان.. اما الصمت الناطق فقد كان عندما لم تَصرخ الدكتورة الاء بل احتسبت عند رب قوي مقتدر. لم تنتقم بل واصلت العطاء. تحويل الجرح الشخصي إلى شعلة إنقاذٍ للآخرين هو قمة التحدي الإنساني.. و الاستمرار رمزاً، كما حوّلت الخنساء فقدها إلى شعر رثاء خلّد صبر العرب، حوّلت الآء مأساتها إلى فعل إغاثة يومي يخلّد أبناءها في كل طفلٍ تنقذه..
من رحم الجحيم، صارت الآء أُمّاً لكل أيتام غزة. قصتها ليست سرداً للحزن، بل شهادةٌ على أن الإيمان يصنع من القلب المحطم منارةً. هي صرخةٌ في وجه عالمٍ صامتٍ: “انظروا! هذه غزةُ تُذبح أحلام أطفالها وتُحرق قلوب أمهاتها!”. في صبرها الأسطوري، تُعلّمنا درساً قاسياً: الحب أقسى سلاحٍ يواجه البربرية، وأن الأم التي تدفن أبنائها ثم تفتح ذراعيها لأبناء غيرها، هي القوة التي لا تُقهَر.
هي ” أم الشهداء” التي اختارت أن تكون ملاذاً لكل طفلٍ نازفٍ في غزة. هي الخنساء الجديدة، وُلِدت من رحم مأساةٍ لم يعرفها التاريخ، حاملةً في عينيها رسالةً إلى العالم: مهما سقطت الصواريخ واسلحة الدمار والتدمير، فإن الأرواح التي تُبنى على الإيمان ستبقى شامخةً كالجبال. تُخلّد أبناءها ليس على شواهد القبور، بل في كل يدٍ تمتدّ بالرحمة وسط الدمار، وفي كل قلبٍ يرفض الانكسار، مكتوبةً بأحرف من نورٍ وعزٍّ وإيمان.
أمين عام المجلس الصحي العالي السابق

طباعة الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تنويه
• تتم مراجعة جميع التعليقات، وتنشر عند الموافقة عليها فقط.
• تحتفظ " فيلادلفيا نيوز" بحق حذف أي تعليق، ساعة تشاء، دون ذكر الأسباب.
• لن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة، أو خروجا عن الموضوع محل التعليق، او يشير ـ تصريحا أو تلويحا ـ إلى أسماء بعينها، او يتعرض لإثارة النعرات الطائفية أوالمذهبية او العرقية.
• التعليقات سفيرة مرسليها، وتعبر ـ ضرورة ـ عنهم وحدهم ليس غير، فكن خير مرسل، نكن خير ناشر.
HTML Snippets Powered By : XYZScripts.com