الخميس , أكتوبر 23 2025 | 1:26 م
الرئيسية / كتاب فيلادلفيا /  الدكتور أجمل الطويقات يكتب: جيل لم تكسره القسوة… بل صقلته المحبّة

 الدكتور أجمل الطويقات يكتب: جيل لم تكسره القسوة… بل صقلته المحبّة

فيلادلفيا نيوز

 

بعد أعوام طويلة من ممارستنا دور الآباء، أدركنا متأخرين أننا كنا ضحايا لما يُسمّى نظريات التربية الحديثة. وهي نظريات علمية لا ترفض جلها ولا يؤخذ كلها، تلك التي بشّرتنا بشعارات براقة، منها:

“صاحبوا أبناءكم، واهبطوا إلى مستواهم، وافتحوا معهم حوارات صريحة تحفظ لهم الثقة، وإياكم والعقاب البدني حفاظًا على صحتهم النفسية، ولا تفرضوا آراءكم عليهم، بل اتركوهم يختارون ويقرّرون بحرية تامة ليشعروا بالاستقلالية”…

ثم اكتشفنا، بعد أن كبر الأبناء وكبرنا، أن كل ذلك لم يكن سوى ترف تربوي مغلف بالكلمات المنمقة لم يحقق مبتغاه الحقيقي في مجتمعاتنا، وقد تجاهلنا نموذجاً مجربا ناجحاً؛ فأجمل نموذج للأبوة لم نقرأه في كتاب أو نسمعه في ندوة، بل عشناه مع آبائنا.

إن نظرة متفحصة إلى واقع جامعاتنا اليوم وما يقع فيها من عنف يقوم به الطلبة يدرك حقيقة غياب النظريات التربوية عن واقع تلك الجامعات. وهذا يحتاج إلى أبحاث متخصصة ومقالات مفرودة لدراسة حالات العنف الجامعي والمجتمعي، وهنا المقام لا يسمح بذلك، وإن كان لا بدّ من الإشارة إليه في هذا السياق.

لقد كان الأب في زماننا رمزًا للهيبة والسلطة التي لا تُسأل عن مبرر ولا تُناقش في قرار. كانت كلمته الأخيرة دائمًا: «هيك القرار!» فننصاع لها صامتين، حتى وإن لم تُرضِنا.

استبداد آبائنا ـ إن جاز التعبير ـ كان يمتد إلى تفاصيل الحياة كلها: نوع الطعام واللباس، وموعد الخروج، ونوع الدراسة واختيار الأصدقاء. وكانت الجملة التي تُنهي أي نقاش محتمل:

«أنا أدرى بمصلحتك، وأعرف الصواب أكثر منك».

جملة واحدة كفيلة بإغلاق كل أبواب الجدل وإخماد كل اعتراض ناشز.

ومع ذلك، كان للآباء هيبة لا تشبه سواها، تمتد إلى كل من هو في مقامهم: العم، والخال، وجار العائلة، وصديق الأب والمعلم ومدير المدرسة وإمام المسجد. كنا نستحي أن يرانا أحدهم في موقف لا يليق، فمجرد نظرة منهم كانت كافية لتوقظ ضمائرنا النائمة حينئذ.

وفي خلفية المشهد، كانت الأم السند الحقيقي للأب، تسانده ولا تعارضه، وتزرع في قلوبنا محبته واحترامه، تخفف قسوته بحنانها، وتؤكد بلسانها الرقيق أن الحزم وجه آخر للحب الصادق، وأن شدته علينا لم تكن يومًا إلا خوفًا من انحراف في الطريق.

 

آباؤنا كانوا يرفعون شعارًا بسيطًا وواضحًا: «من يدرس، يدرسْ لنفسه، ومن يجد يبني لغده».

لم يكونوا يركضون خلفنا بالدروس الخصوصية أو الدورات المتخصصة، لكنهم كانوا، إن لمسوا فينا الرغبة، يدعموننا بما يستطيعون دون تردد أو منّة.

أرادوا منا أن نكون محترمين في سلوكنا، مجتهدين في تعليمنا، فإن فشلنا في الدراسة، وجّهونا إلى صنعة تُكسبنا قوتنا بكرامة.

وإن رغبنا في شيء يفوق إمكاناتهم، لم نجد أمامنا طريقًا سوى العمل لشرائه بأنفسنا إن استطعنا ضمن فلسفة تربوية : ” ليس كل ما اشتهيت اشتريت”.

أما الضرب، فكان احتمالًا قائمًا، وإن لم يقع كثيرًا، لكن مجرد احتمالِه كان كافيًا لردعنا وتأديبنا.

لم يكن الآباء يستجدون أبناءهم للذهاب إلى المساهمة في عمل الأسرة في في غير وقت الدراسة، كما لا يستجدوهم في الذهاب إلى التمارين الرياضية أو الدورات الفنية، فالابن الذي كان يحمل شغفًا بشيء، كان يركض إليه من تلقاء نفسه، ويكتفي الأب بالإذن له، فيكون ذلك الإذن منحة تُشكر.

ومع كل تلك الصرامة، كنا نحبهم بصدق، ونجلّهم احترامًا، ونقدّر ما قدموه من تعب وصبر دون شكوى أو منّة.

لم يكونوا يرافقوننا إلى الدروس أو الملاعب، ومع ذلك كنا نشعر أنهم خلفنا دومًا، يوجّهوننا بصمت ويقودوننا بثقة، بينما كانت الأم تكمل المشهد بمساحيق الحنان والدفء، تحفظ هيبة الأب في حضوره وغيابه.

ولم تكن تلك الصرامة في التربية قسوة كما يحلو للبعض أن يصفها اليوم، بل كانت صناعةً لشخصيةٍ صلبةٍ تعرف قدرها، وتدرك حدودها.

جيلٌ ربّاه الحزمُ والحبُّ معًا؛ لم يخرج هشًّا ولا منكسرًا، بل وُلد منه رجالٌ ونساءٌ أقوياء في المواقف، منتمون لبيوتهم ووطنهم، محبّون لمجتمعهم، ثابتون على قيمهم وأخلاقهم، لا تتلاعب بهم موجات الفكر الوافد، ولا يغريهم بريق الغرب ولا بهرجة الشرق.

لكن الأبناء اليوم استغلوا فوضى التربية الإيجابية ليمارسوا علينا نوعًا جديدًا من الابتزاز العاطفي والمادي، فحوّلوا رغبتنا الصادقة في منحهم حياة أفضل إلى بوابة للكسل والاتكالية واللامبالاة.

 

ولو عاد بنا الزمن، لفعلنا مع أبنائنا ما فعله آباؤنا معنا، بلا ندم ولا تردد. فللأحياء من آبائنا نقول: جزاكم الله عنا خيرًا، ما زلتم قدوتنا الحية التي نتعلم منها كل يوم.

وللذين رحلوا منهم نرفع الدعاء بقلوب ممتنة: رحمكم الله بقدر ما ربيتم، وغفر لكم بقدر ما تعبتم.

فما عرفنا قيمة التربية إلا حين وقفنا في مكانهم نحمل ذات الهم ونعيد ذات الدور،

وحينها فقط، فهمنا أنهم كانوا على الصواب… كل الصواب* .

طباعة الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تنويه
• تتم مراجعة جميع التعليقات، وتنشر عند الموافقة عليها فقط.
• تحتفظ " فيلادلفيا نيوز" بحق حذف أي تعليق، ساعة تشاء، دون ذكر الأسباب.
• لن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة، أو خروجا عن الموضوع محل التعليق، او يشير ـ تصريحا أو تلويحا ـ إلى أسماء بعينها، او يتعرض لإثارة النعرات الطائفية أوالمذهبية او العرقية.
• التعليقات سفيرة مرسليها، وتعبر ـ ضرورة ـ عنهم وحدهم ليس غير، فكن خير مرسل، نكن خير ناشر.
HTML Snippets Powered By : XYZScripts.com