فيلادلفيا نيوز
صوت قادم من بعيد لا تفهم كنهه ، يقترب شيئًا فشيئًا ؛ وأنت ما بين غفوة ، وشبه صحو تتثاءب كي تدفع عنك ذلك الوسن الذي لحق بعينيك ، وأسلم جسدك لتلك السِنة (الحلوة) ليتبين لك ؛ أنه صوت طبال القرية ، يوقظ الناس للسحور ، فغدًا هو أول أيام رمضان ، ذلك الشهر الذي قضت أمي أيامًا تُعِدّ ما تيسر من طعام يمكنها صنعه ؛ في حركة مُعلَنة ، ولا أدري عما في نفسها ؛ فأمي سيدة تتقن الصمت ، ولم أكن حينها أتقن الإصغاء ، ويحضر والدي التمر ، وقمرالدين ، وقوالب جبنة كنت أراها ضخمة آنذاك ؛ خاصة بالسحور فقط ..
أصحو وقد أصبح الطبال على باب بيتنا ، ينادي بأعلى صوته ؛ يلا يا نايم وحدّ الدايم ، ثم ينادي والدي باسمه ، وينادي بأسماء رجال الحيّ كلهم ؛ وأحيانًا بألقابهم ، وكناهم ؛ فهو يعرفهم ، ويعرفونه ؛ فهو العم زيد ، بمشيته المميزة التي يعرفها أهل القرية ؛ قدم واحدة ، والأخرى من خشب ، يجوب بها الأحياء ، والأزقة ؛ دون تعب أو شكوى ، أو تذمر ؛ يدفعه قلبه ، ويعينه ربه ، ويكسب أجرًا …
تضاء البيوت بتلك الأضواء الخافتة ، ويُسمع صوت بابور الكاز ؛ يعلن أن إبريق الشاي على وشك الغليان ، وربما يتبعه بعض طعام بسيط تجتمع عليه العائلة ، يعينهم على الصيام .
أنتظر أنا بفارغ الصبر أن تبدأ أمي بتوزيع قطع الجبن علينا ، وأعجب من عدالتها ؛ فالقطع متساوية ؛ كيف لا ؛ وقلبها ميزان دقيق ، معياره الحب والحنان …
وبسرعة البرق ألتهم الوجبة ، وأنتظر بدء والدي بطقوس الوضوء ؛ لأصغي لذلك الدعاء الذي يخص به كل جزء من أجزاء جسده المشمول بالوضوء .
ثم يبدأ مشهد آخر جميل ؛ حين ينقلك صوت العم ؛ الحاج عبدالرحيم ؛ إلى عالم آخر تحلّق فيه روحك في معارج السماء ؛ فقد وهبه الله صوتًا آسرًا ، بلا مؤثرات ، ولا تجميل ، وأجزم لو أنه كان في (مصر) آنذاك ؛ لأصبح من مشاهير القرّاء ، والمؤذنين ، إذ يجبرك على الخشوع ، والبكاء ، وهو يرسل ذلك النداء الخالد ؛ ليقع في قلبك ، قبل سمعك .
ثم ما تلبث أن تسمع وقع أقدام السائرين إلى المسجدين اللذين يقع بيتنا بينهما ؛ لأداء صلاة الفجر ؛ فالجو ساكن ، لا يعكر صفوه صوت سيارة ، أو غير ذلك ، وما إن تنتهي ، حتى يعود الناس إلى أعمالهم ، وليس للفراش ، وأذهب أنا إلى المدرسة ، لأكون أول من يصل ؛ لأخبر زميلاتي بأنني صائمة ، ثم تتوالى حركات إثبات الصيام الطفولية البريئة ، وفي ظل كل ذلك الحماس ؛ أعِد نفسي بأن أتمّ الصيام إلى الليل ؛ لكنني سرعان ما أحاول أن أخلف هذا الوعد ، عند العودة إلى البيت ؛ عندما يغريني منظر صحن من قمرالدين ، إلى جانبه خبز الطابون ؛ فأرجو أمي (في معزل عن شقيقاتي وتجنبًا لنظرات التشفي والسخرية) ؛ بأن تمنحني فتوى بالإفطار ؛ فأنا صغيرة ، وجائعة ، وتعبت اليوم في المدرسة ، والكثير من الأعذار !
تكتفي أمي بأن تنهرني وتقول ؛ لم تعودي طفلة ؛ فأنت في السادسة ، ويجب عليك الصيام ، ويتبع ذلك الكثير من النصح ، والتوجيه …
تلك لوحة غافية ؛ أيقظها ضجيج الإعلام ، وما يغرقوننا به من إعلانات الطعام والشراب ، والمسلسلات ، والمسابقات ، والخيم الرمضانية ، والسهرات الفنية ، وكل ما يمكن أن يصرف الناس عن رمضان ، وأهداف الصوم ، والغاية منه ، في حركة غير مسؤولة ، وأظنها غير بريئة ؛ إن لم ننتبه ، ونحذر ، ويصلح كل منا ما بينه وبين خالقه ، في فسحة من العام ، ربما لن تتكرر العام القادم …
صباح الخير
#رمضان_مبارك