فيلادلفيا نيوز
يا نبأً انكفأت بعد ذيوعه دلال قهوة كثيره.. وقلوب مفجوعة اكثر!! انه نبأ رحيل والدي الحبيب الشيخ سليمان ابراهيم الطراونه.. حيث انكفأت دلالي انا.. وانكفأت أنا لا ألوي على شيء!!
يا خبراً ابكاني وأبكى الكثيرين قبلي.. وابكى مُهرة والدي (جوهرة) وأبكى جواهر كثيره!!
ففي الحادي والعشرين من تموز كل عام ومنذ العام 1975 يتخربط غزلي.. واظل أحوسُ داخل الدار مهموماً وموجوعاً ومذبوحاً مثل طائر ذبيح يتلوّى بين الحياة والموت لا بل هو الى الموت أقرب!!
نعم يتخربط غزلي.. وينشدهُ بالي لانه يوم رحيل والدي صاحب الوجه الصبوح والقسمات الطيبه التي أبدع الباري عزّ وجل صنعها.. انه رحيل والدي.. وسيدي.. واستاذي.. ومثلي الأعلى!!
في هذا اليوم تسوّدُ الدنيا في عينيّ.. ولا ينتشلني من همي وضياعي طيلة جثوم الغربة على قلبي المتُعب سوى طيف والدي الغالي ورسمه البهي وذكرياته الجميله!! فتراني حين المح رسم والدي قُدامي اصحو من الهم فجأة.. وانفض عني كبوتي وضياعي.. واسارع الى لثم جبين الرسم العالي الماثل قبالتي.. واستذكر وايّاه وقائع واحداثاً غالية على قلبينا معاً.. وعلى قلوب حسيرة كثيره!!
أتمثل رسمك الزين يا والدي، وانت تحدثني عن لقائك مع الغالي الشهيد (وصفي التل) في مطلع الستينات من القرن الماضي خلال لقاء موسّع ضمّ رؤساء المجالس المحليه في ضفتي المملكه وكنت انت أحدهم انذاك، والذي انعقد بطلب من الرئيس (وصفي) .. وكان عنوان اللقاء الواسع (تطوير الزراعه) واداته الفاعله (التشجير الاجباري) التي اقترحها الغالي على قلب الوطن (وصفي) فأضحت بلسماً اكتست بموجبه مئات الالاف من الدونمات واكثر في المملكه لوناً اخضر.. واخضرت قلوب الناس..فانبسط البشر واخضر الشجر وكانت النتيجة في المملكه وفي الجنوب على وجه التحديد ازدهار المزارع والبساتين حيث فازت مزارع مؤتة والمزار ومعان واستحوذت على نصيب وافر من جوائز المسابقه، مسابقة المزارع النموذجيه في المملكه التي اقترحها الغالي (وصفي)!! واصبح مشروع الحسين الاخضر بجانب القطرانه جنة خضراء تسر الناظرين!!
واستذكر، يا تاج راسي، حين كنت تعطيني مصروفي اليومي والذي خصصت أنت جزءاً وفيراً منه لصندوق نُصرة الجزائر.. وكنت تقول لي: الجزائر اولاً يا ولدي!! فأصدع لأمرك..ويأخذ الطفل في داخلي مصروفه اليومي ليودع ثلثيه في صندوق الجزائر الذي يزين صدر المدرسة في بلدنا حين كانت الجزائر البطله تحتل الصدارة وما تزال، الى جانب فلسطين الحبيبه من حيث الغلاوة والتعاطف ومن حيث كونهما فلسطين والجزائر بوصلة قلوب كل الشرفاء نحو التحرر من الاستعمار التي لا نحيد عنها!!
فأنت، يا الحبيب، من زرع الانتماء القومي في وجداني.. هذا الانتماء الذي أضحى ديدني وهدفي في هذا الزمن الرديء ومزاجه اللعوب!!
نعم كنت اودع حصة الجزائر الغاليه في الصندوق وأنا ارفع أكف الضراعة الى الباري عز وجلّ ويقول الطفل في داخلي: يا رب انصر الجزائر وشقيقتها فلسطين على المستعمرين والصهاينه الظالمين!!
واستذكر، يا سيدي، حين كنا نُحجر (ننظف الأرض من الحجاره) معك وحين كنت تستلقي عند الظهيرة..فراشك الارض والتراب.. ووسادتك الحجر، في العرجا وام عطاره والنقط والسدر والمغاريب وغيرها من اراضيك واراضي أعمامي.. وحين كنت اسألك ان كنت تغط في نوم عميق فيأتيني الجواب بأنك لم تنم بل تحاور الارض وتوشوشها حين تضع خدك على مصدر سمعها وهي تبوح لك وتقول: يا سليمان لا ترخصني الاّ لغرضين اثنين وهما العلم والمرض.. وبغير ذلك لن أغفر لك!!
واستذكر كيف زرعت في وجداني حب الارض والتعاطي الدائم معها والمعاني الكثيره والكبيره المستخلصه من الحوار بين الارض والانسان!! كما غرست في وجداني أن ارضنا دائماً بتتكلم عربي..! وستظل كذلك بحول الله!
واستذكر، يا مثلي الأعلى وصاحب الحكمة والعقل الراجح عندما شرفتني بزيارة في منزلي بجبل عمان قبيل رحيلك بأسبوع.. وقلت لك انا مسافر يا والدي الى (رومانيا) هل توصي بشيء.. وقلت: ترجع بالسلامه!! ثم اردفت انت هل لديك مطلب اقضيه لك قبل سفرك.. فأجبتك: نعم يا والدي لي مطلب واحد ووحيد قبل السفر وهو ان اغسل قدميك بيدي مثلما كنت تفعل مع جدي الحاج ابراهيم لكي ارد لك بعضاً من الواجب نحوك.. لكنك رفضت .. وبعد الحاحي الشديد وافقت.. واذكر عند البدء بالمهمة الغاليه الى قلبي وهي غسل قدميك بيدي.. فقد شعرت بهطول شيء ساخن على كتفي.. واطلقت العنان لبصري عبر زاوية حادة كي لا أرى والدي في لحظه ضعف..فاذا بالدمع يهطل من عينيك دون استئذان! فجاء الدمع ساخناً كدفء حنانك.. وسخياً مثل سخاء كفك.. وموجعاً مثل طعم وجعي!!
نعم.. رأيت الندي، يا والدي سخياً وساخناً وعطوفاً كذاك الدمع الذي رأيته ولمسته منذ فترة وجيزة يهطل ندياً من مقلة ابن عمي الدكتور مصلح الطراونه الذي فجع بشده مثلما فجعنا نحن لفقد فلذة كبده وابننا (محمد) طيب الله ثراه.
فقد بكى الدكتور مصلح وابكانا جميعاً بسبب رحيل ملاك في مقتبل العمر ذهب مبكراً الى جوار الرحمن الرحيم.. وحين التقت عيناي بعينيه في بيت العزاء لم ينبس كلانا ببنت شفه فقد تولى الدمع الساخن استكمال الحوار!!
نعم.. يا والدي رأيت الدمع يهطل سخياً من مقلتك ويلقي ترداده في مهجتي وفؤادي..مثلما رأيت ذات الندي ينداح من عيني (ابو محمد) ساخناً وسخياً على فراق فلذة كبده ولدنا (محمد) طيب الله ثراه.. فأدركت حينها ان صناع الألماس كانوا على حق حين صاغوا اغلى اللاليء على شكل دمعه!!
واستذكر- يا تاج راسي- شيمك الطيبه واكرام الضيف حين زارنا رجل ثمانيني في عز الشتاء بقريتنا الصغيره (رجم الصخري) سابقا (والحسينيه) حالياً.. وكان الرجل مريضاً..فاكرمته واحسنت وفادته..واعطيته غرفة نومنا أنا وشقيقي المدلل لديك (خالد) واصبح الضيف صاحب البيت ومالك الغرفه ونحن الاثنان في خدمته.. وظل (الختيار) يسعل ويشخر طوال الليل وظل السعال والشخير يتناوبان حتى مطلع الفجر..عندها ذهبنا لنشتكي على سمفونيه الشخير والسعال فما كان منك الاّ أن زجرتنا وقلت: هذا ضيفي..يتدلل.. وانتما اذهبا وناما في الحوش ان شئتما..فصدعنا لهذا الامر العسكري وظللنا ساكتين حتى مطلع الصباح!! حين اصدر لنا والدي امراً بان نساعد الوالده (ام خالد) حفيدة الشيخ الجليل صالح ابن سليمان الطراونه بعمل وجبة افطار للضيف العزيز من معلاق الذبيحة !!
واستذكر، يا مثلي الأعلى في الشهامة والمرؤة والتسامح عندما اصدر المجلس المحلي في قريتنا الذي كنت تترأسه فواتير المياه لأول مره اذ اعتاد الناس على شرب المياه من الابار.. ونفر بعضهم من هذه التكنولوجيا الجديده وهي ايصال المياه عبر الانابيب!!
ولدى تسلم احدهم الفاتوره وقيمتها بالمناسبه اقل من دينار قام بشتمك.. وما ان سمعت بذلك حتى وجدتني استل عصاي وأتوجه نحو منزل الرجل لضربه.. فوجدتك تنزع العصا من يدي بشده وتقول: تمنيت لو كان بيمينك كتاب وليس “المذروب” وقلت لي: لا تحرم الناس من املهم بيّ يا عبدالسلام..!! ثم ان الرجل شتم رئيس المجلس وليس شخصي!! فما بالك انت!!
ثم اعطيتني ثلاثة دنانير لاقوم بتسليمها لمن شتمك.. وصدعت لامرك وذهبت وقلت له: هذا مبلغ من والدي قرظه لك لغب الطلب!! فانفجر من البكاء واستل على الفور عصاه ليلقي بها على رأس زوجته وهو يصرخ في وجهها: عجبك يا لئيمه فانت التي حرضتني على ابو عبدالسلام.. والله ما تظلي لي في دار.. فانت كيدك عظيم.. واصبح دوري بعد ذلك ان احجز بين الزوجين المتخاصمين!!
واستذكر يا كبدي حين كنت تذهب مع طالع شمس كل يوم انت ونخبة من ابناء العمومة والخؤوله لجمع التبرعات من اجل (الوقف المدرسي) اي بناء مدارس حكوميه على حساب الناس!! فولدت معظم المدارس نتيجه تبرعات الاهالي في قرى الطراونه (مؤاب).. وساد العلم .. وسادت الثقافه بفضل السواعد الصادقه وكانت الحكومة اخر من يعلم بميلاد صروح العلم والثقافه..!! والغريب أن رؤساء الحكومات لم يقولوا شكراً باستثناء الشهيد وصفي التل الذي كان دوره عاملاً رئيساً في مساهمة الحكومه ببعض المدارس هناك..!!
وأستذكر دورك في تأسيس مجالس الخدمات المشتركه والذي كنت سباقاً اليه قبل الحكومه بعشرات السنين!!
واستذكر يا والدي ومعلمي واستاذي حين كنت تتناول كتاباً بعنوان (المشوق) من الصندوق الذي يحتوي زهاباً لنا وتقرأ لي وبصوت عال اقتباسات وحكماً من جبران خليل جبران ومصطفى لطفي المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي وايليا ابو ماضي ومخائيل نعيمه واحمد شوقي وحافظ ابراهيم وتوفيق الحكيم وغيرهم ممن لا تسعفني الذاكره بايراد اسمائهم .. وكنت تسألني في اليوم التالي عما استخلصته من قراءات الأمس!!
واستذكر.. واستذكر.. واستذكر!!
وفي الختام أدعو الرحمن بأن يترفق بك ويسكنك جنات النعيم وان يجعل ما انجزت في حياتك في ميزان حسناتك
وفي ختام الختام يتحتم عليّ أن استعير من امير الشعراء احمد شوقي بيتين من قصيدة نظمها في رثاء والده فالبيتان يمثلان واقع الحال على اتم ما يكون حيث يقول الأمير:
نَحنُ كُنّا مُهجَةً في بَدَنٍ ثُمَّ صِرنا مُهجَةً في بَدَنَين
أنا مَن ماتَ وَمَن ماتَ أَنا لَقِيَ المَوتَ كِلانا مَرَّتَين!!
نعم ..يا والدي الحبيب كنت أنت وانا مهجة في بدن.. ولقينا الموت كلانا مرتين!!
وعليك سلام الله مني تحيه.. وليرحمك الرحمن الرحيم