الإثنين , يونيو 2 2025 | 12:07 ص
آخر الاخبار
الرئيسية / stop / الأستاذ الدكتور مخلد الطراونة يكتب : استقلالية الجامعات في الأردن: بين الطموح والواقع

الأستاذ الدكتور مخلد الطراونة يكتب : استقلالية الجامعات في الأردن: بين الطموح والواقع

فيلادلفيا نيوز

في عالم تتسارع فيه وتيرة التغيرات العلمية والتقنية، وتتحول فيه المعرفة إلى رأس مال أساسي في التنمية، تبرز الجامعات كبيوت خبرة وطنية ومعاقل لإنتاج الفكر والتقدم. ومع هذا الدور الحيوي، تصبح استقلالية الجامعات ليس فقط مطلبًا أكاديميًا، بل شرطًا ضروريًا لتمكين هذه المؤسسات من أداء رسالتها على أكمل وجه، بعيدًا عن التجاذبات الإدارية والسياسية والبيروقراطية.
في الأردن، ورغم التقدم اللافت في قطاع التعليم العالي خلال العقود الماضية، لا تزال مسألة استقلالية الجامعات تدور في حلقة من الجدل والانتظار. فالجامعات الأردنية، سواء الرسمية منها أو الخاصة، لا تزال تخضع في العديد من جوانب إدارتها لرقابة مركزية من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، أو من مجالس رسمية عليا، الأمر الذي يقيّد مساحة القرار الجامعي، ويضعف القدرة على الاستجابة الفعالة للتحديات المتسارعة في البيئة التعليمية العالمية.
وتتمثل الاستقلالية الجامعية في تمكين الجامعة من إدارة شؤونها بنفسها، أكاديميًا وإداريًا وماليًا، بما يشمل وضع البرامج والخطط الدراسية، وتعيين الكفاءات الأكاديمية، وإدارة الموازنات، وتنظيم الشراكات البحثية والعلمية مع جهات خارجية، دون الحاجة إلى المرور بإجراءات بيروقراطية معقدة أو الرجوع المتكرر إلى السلطة المركزية. غير أن هذا المفهوم لا يعني الفوضى أو الانفصال عن الدولة، بل هو علاقة توازن بين الاستقلال من جهة، والرقابة الرشيدة والمساءلة من جهة أخرى.
الواقع يشير إلى أن الجامعات الأردنية، رغم ما حققته من إنجازات، لا تزال تواجه تحديات جوهرية تحول دون تحقيق استقلاليتها المنشودة. ولعل أبرز هذه التحديات يتمثل في مركزية القرار، لا سيما في تعيين رؤساء الجامعات والعمداء، واعتماد البرامج الأكاديمية الجديدة، وإقرار الموازنات السنوية. وترافق ذلك قيود على الشراكات البحثية الخارجية، وضعف في الحرية التامة لتحديد أولويات الإنفاق أو تطوير البنية التحتية والمؤسسية. كما أن بعض الجامعات تُدار أحيانًا وفق اعتبارات مجتمعية أو توازنات مناطقية على حساب الكفاءة والتميّز المؤسسي.
إضافة إلى ذلك، فإن الضغوط المالية تشكل عائقًا حقيقيًا أمام استقلال الجامعات، فاعتمادها شبه الكامل على التمويل الحكومي والرسوم الدراسية يحدّ من قدرتها على إدارة مواردها بحرية، ويجعلها رهينة لقرارات مالية خارجية. ومن هنا، فإن تعزيز الاستقلال المالي عبر تنمية الإيرادات الذاتية، وإنشاء مشاريع إنتاجية، وتوسيع مظلة البحث العلمي التطبيقي والشراكات مع القطاع الخاص، يعد ضرورة حيوية.
ومع هذه الصورة المعقدة، فقد ظهرت في الآونة الأخيرة محاولات لتصحيح المسار، سواء من خلال إعادة النظر في التشريعات الناظمة للتعليم العالي، أو عبر منح الجامعات مساحة أوسع في إدارة شؤونها، خصوصًا في الجوانب الأكاديمية والإدارية. غير أن هذه الجهود، وإن كانت مشجعة، لا تزال محدودة الأثر ما لم تُبنى على رؤية شمولية تضع الاستقلالية كأولوية استراتيجية.
ما نحتاجه اليوم ليس فقط نصوصًا قانونية جديدة، بل تغييرًا في الفلسفة العامة لإدارة التعليم العالي في الأردن. نحتاج إلى ثقة حقيقية بالجامعات كمؤسسات وطنية راشدة، قادرة على إدارة ذاتها، ومساءلتها على أساس الأداء والنتائج، لا على أساس الولاءات أو التوازنات المؤقتة. كما نحتاج إلى بناء ثقافة جامعية داخلية تُقدّر الكفاءة، وتدعم الابتكار، وتؤمن بأن الحوكمة الرشيدة تبدأ من داخل الحرم الجامعي.
الجامعات المستقلة لا تعني جامعات معزولة عن الدولة، بل مؤسسات تسهم بفعالية في تنفيذ السياسات الوطنية، وتنتج المعرفة التي تُغذّي القرارات الكبرى، وتعدّ الموارد البشرية المؤهلة لقيادة التنمية. والاستقلال هنا ليس امتيازًا، بل مسؤولية مضاعفة، تفرض على الجامعات أن ترتقي بأدائها، وتعزز شفافيتها، وتفتح أبوابها للمساءلة والمراجعة المستمرة.
إن المرحلة التي يمر بها الأردن اليوم، بما تحمله من تحديات اقتصادية واجتماعية، تتطلب من الجامعات أن تكون حاضرة، لا فقط كجهات تعليمية، بل كمراكز فكر وقيادة. ولن يتحقق هذا الدور ما لم تتحرر هذه المؤسسات من القيود الإدارية، ويُفسح لها المجال لتبني سياسات جريئة، وتطوير برامجها، والانفتاح على العالم، والمساهمة الفاعلة في خدمة المجتمع والدولة.
إنني، من موقعي الأكاديمي والوطني، أؤمن أن منح الجامعات استقلاليتها هو مفتاح الإصلاح الحقيقي في قطاع التعليم العالي، وهو استثمار طويل الأمد في مستقبل الدولة، ونهج يقوم على تمكين العقل، وتحرير الطاقات، وتكريس ثقافة المسؤولية المؤسسية. ولعل اللحظة قد حانت لاتخاذ قرار وطني شجاع بهذا الاتجاه، يعيد للجامعة هيبتها، ويمنحها المساحة لتبدع، وتبني، وتنهض بالأجيال القادمة.

طباعة الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تنويه
• تتم مراجعة جميع التعليقات، وتنشر عند الموافقة عليها فقط.
• تحتفظ " فيلادلفيا نيوز" بحق حذف أي تعليق، ساعة تشاء، دون ذكر الأسباب.
• لن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة، أو خروجا عن الموضوع محل التعليق، او يشير ـ تصريحا أو تلويحا ـ إلى أسماء بعينها، او يتعرض لإثارة النعرات الطائفية أوالمذهبية او العرقية.
• التعليقات سفيرة مرسليها، وتعبر ـ ضرورة ـ عنهم وحدهم ليس غير، فكن خير مرسل، نكن خير ناشر.
HTML Snippets Powered By : XYZScripts.com