فيلادلفيا نيوز
في لحظة سياسية فارقة، أطلّ جلالة الملك عبد الله الثاني أمام البرلمان الأوروبي، في خطابٍ شكّل علامة بارزة في تاريخ الخطاب السياسي العربي المعاصر. جاء الخطاب متماسكاً في بنيته، عميقاً في مضمونه، وعادلاً في رؤيته، حاملاً همّ القضية الفلسطينية، ومسلّطاً الضوء على تدهور الأوضاع الإنسانية والسياسية في الأراضي الفلسطينية، لا سيّما في غزة والضفة الغربية، وسط تواطؤ الصمت الدولي.
منذ بداية كلمته، وضع جلالة الملك القضية الفلسطينية في صلب حديثه، مؤكدًا أن الحق في الحرية والسيادة وإقامة الدولة المستقلة ليس خيارًا تفاوضيًا، بل استحقاق إنساني وقانوني لا يقبل التأجيل. لقد شدد على أن غياب الحل العادل للقضية الفلسطينية يُقوّض أي محاولة حقيقية لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، ويرسّخ مشاعر الغبن واليأس لدى الشعوب، خاصة في ظل انسداد الأفق السياسي وتفاقم المأساة الإنسانية في قطاع غزة، حيث تتوالى المجازر، وتُسحق القيم.
لكن الخطاب لم يكتف بتوصيف المعاناة، بل انطوى على تحذير ذي طابع استراتيجي، حين أشار جلالته إلى توسّع نطاق العمليات العسكرية ليشمل إيران، مما ينذر، بحسب تعبيره، بـ”معركة لا يمكن معرفة أين ستنتهي حدودها”. بهذا التصريح، قدّم الملك قراءة استباقية لمآلات الوضع الإقليمي، واضعًا الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي أمام مسؤولياتهم في وقف التصعيد قبل أن يتحوّل إلى نزاع إقليمي شامل.
وفي مشهد لا يقل مأساوية عن غزة، تطرّق جلالته إلى الأوضاع المتدهورة في الضفة الغربية، حيث الانتهاكات اليومية، والاعتقالات، والاستيطان، باتت عنوانًا دائمًا، ينسف أي فرص واقعية للسلام. ورأى الملك أن الصمت الدولي إزاء هذه الانتهاكات يغذي التطرف، ويؤسس لحالة من الغليان المزمن، مشيرًا إلى أن الوضع يزداد سوءًا يوماً بعد يوم.
في خضم هذا الواقع القاتم، حمل الخطاب الملكي دعوة واضحة وشجاعة للسلام، حين قال: “لقد سلكنا طريق السلام من قبل، ويمكننا أن نسلكه مجدداً، إذا تحلينا بالشجاعة اللازمة.” بهذه العبارة، لم يكن الملك يعبّر فقط عن قناعة شخصية، بل قدّم معادلة سياسية أخلاقية تجمع بين الإرادة السياسية والشجاعة الأخلاقية، في مواجهة منطق العنف والاستقواء.
من الناحية الدبلوماسية، حمل الخطاب رسائل بالغة الأهمية، تؤكد على مكانة الأردن كشريك موثوق للاتحاد الأوروبي. فقد حرص جلالته على التذكير بالدور الاستراتيجي الذي تلعبه المملكة في تعزيز الاستقرار الإقليمي، وفي محاربة الإرهاب، واستضافة اللاجئين، والحفاظ على القيم المشتركة التي يتقاطع فيها الشرق والغرب. كما أعاد التأكيد على الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، باعتبارها مسؤولية تاريخية، دينية، وسياسية، تعبّر عن إيمان الأردن بالتعددية الدينية، ورفض سياسات التهويد والتغيير القسري لهوية المدينة المقدسة.
إن خطاب جلالة الملك لم يكن تقليديًا في مضمونه، بل تجاوز الإطار البروتوكولي المعتاد، ليغدو بيانًا أخلاقيًا وسياسيًا يعيد الاعتبار للعدالة الإنسانية، ويذكّر العالم بأن الكيل بمكيالين هو أخطر تهديد للنظام الدولي. وقد جاءت لغة الخطاب جامعة بين القوة في الطرح والهدوء في الأداء، فبدت كأنها مرآة لسياسة الأردن المتّزنة، التي اختارت طريق الاعتدال، دون أن تساوم على المبادئ.
لقد مثّل خطاب الملك أمام البرلمان الأوروبي لحظةً نادرة من الوضوح العربي في الساحات الدولية. وفي زمن ترتفع فيه أصوات التطرف، وتخفت فيه أصوات الحكمة، جاء صوت جلالة الملك ليعيد للعقل العربي حضوره، وللضمير الإنساني صوته، مؤكدًا أن السلام لا يكون بالقوة، بل بالعدل، ولا يُبنى بالتحالفات العسكرية، بل بالشرعية الإنسانية.
وهكذا، لم يكن خطاب الملك عبد الله الثاني مجرد عرض لمواقف، بل رؤية متكاملة لمستقبل المنطقة، ودعوة صريحة لإعادة بناء منظومة القيم الدولية، على أساس من العدالة، والكرامة، والاحترام المتبادل بين الشعوب.
