فيلادلفيا نيوز
تناولت في مقال سابق غضب فرنسا من السلوك الإسرائيلي العدواني، ومخططاتها الرامية لتغيير قواعد القوة في المنطقة، مما قد يضعف النفوذ الفرنسي، لذلك شهدنا تحركا فرنسيا عالي السوية غايته عرقلة المشروع الإسرائيلي وإيقافه ومنعه من التمدد، أخذ التحرك الفرنسي منحيين الأول سوري برفض تقسيم سورية، والثاني فلسطيني، تجسد بإعلان النية للاعتراف بدولة فلسطين، والعودة للقرارات الدولية كان عنوان التحرك الفرنسي، هذا الزخم الفرنسي لم يواجه بمعارضة بريطانية ألمانية، مما يعني أن الثقل الأوروبي بات أقل حماسة لتبني وجهة النظر الإسرائيلية، التي ترى أن حل الدولتين فاته القطار.
على الجانب الآخر كان هناك فيض من الغضب العربي، يتوسع ويتعمّق بسبب ما تقوم به إسرائيل في غزة من تدمير وتجويع وقتل، دون اكتراث بأي قانون دولي أو إنساني، هذا الغضب بدا جلياً بالنسبة للمملكة العربية السعودية والتي وضعت ثقلها الخليجي والعربي والإسلامي، باعتبارها دولة قيادية في هذا الفضاء بالإضافة إلى ثقلها الدولي، في ميزان سلام مع اسرائيل مقابل دولة فلسطينية كاملة السيادة، غير أن التغاضي الأميركي عن هذا المطلب السعودي والتفاوض دونه بكثير، والرد الإسرائيلي غير المحترم على دولة لها ثقلها ووزنها السياسي والاقتصادي، فضلاً عن جرائمها في غزة، أغضب السعودية وجعلها تخطط مع حلفائها العرب والدوليين لقلب الطاولة.
لقد التقى الطموح السعودي فيما يتعلق بالدولة الفلسطينية مع الغضب من إسرائيل وسلوك الولايات المتحدة، مع غضب فرنسي من تهميش دورها الإقليمي، وتجاوز إسرائيل حدود المسموح تجاه دولة بحجم فرنسا، فضلاً عن الغضب من منح ترامب لإسرائيل عباءة القوة الأميركية، واعتبارها الوكيل الأميركي في المنطقة، كما التقت خشية الدولتين من أن تصبح إسرائيل هي التي تقرر مستقبل المنطقة، هذا التقاطع ولد رغبة قوية حركت السعودية وفرنسا للإسراع في تدارك الموقف قبل أن يذهب بعيداً، وتتمكن إسرائيل من فرض أجندتها على الجميع، ولما لفرنسا من ثقل دولي وما للسعودية من ثقل سياسي واقتصادي، تحرك الطرفان فرنسا، مدعومة بعدم معارضة بريطانية ألمانية، والسعودية مدعومة بموقف ملفت من الأردن ومصر واللذين سارا معها كتفاً بكتف.
عُقد المؤتمر متكئاً على مبادئ أساسية تشاركت بها كل الأطراف، أول هذه المبادئ أن الولايات تخلت عن التزاماتها السابقة تجاه القضية الفلسطينية، وتحولت إلى شريك كامل لإسرائيل، وثانيها؛ رفض إقصاء الأطراف الإقليمية الكبرى مثل السعودية ومصر والأردن، والدولية كفرنسا المعتدة بقوتها والرافضة لاختصار دورها على هامش المبادرات الأميركية، لكن أبرز ما ميز المؤتمر هو الرفض غير المسبوق للمبدأ الإسرائيلي القائل بأن «القوة هي الحق»، ولذلك وضع المؤتمر بنداً أساسياً في مواجهة هذا التصور الإسرائيلي، وهو إعادة وضع القضية الفلسطينية في إطارها القانوني الأصلي، وكان رهان المؤتمر الأول والإستراتيجي هو تعبئة المجتمع الدولي ككتلة ضاغطة مضادة للهيمنة الأميركية.
نحن إذاً بعد هذا المؤتمر، أمام صراع بين منطقين، منطق تسعى فيه الولايات المتحدة لإعادة تدوير إسرائيل برغم كل جرائمها، بلغة جديدة تستند إلى إعادة فرض الحقائق بالقوة، ومنطق آخر هو منطق الشرعية الدولية الذي يتمسك به العرب وأوروبا ودول أخرى، بالتالي فإن المؤتمر لم يكن استجابة لحالة الغضب وحدها، بل جاء كتتويج لمسار تراكم فيه الشعور الإقليمي، بأن أميركا لم تعد حليفاً ضامناً بل أصبحت خصماً لطموحات السلام الذي تنشده المنطقة، لذلك تمكنت السعودية ودول المنطقة من استثمار المخزون الدبلوماسي المتراكم لفرنسا، ودفعها لتستعيد دورها كقوة وكوسيط مستقل لا تديره أي قوة أخرى.
ما جرى في نيويورك في مؤتمر حل الدولتين ليس النهاية، بل بداية لمسار دبلوماسي جديد، يعيد تعريف من هو صاحب الحق في تحديد مستقبل القضية الفلسطينية، ورفض الجميع في هذا المؤتمر أن تبقى هذه القضية رهينة للمزاج السياسي في واشنطن أو حسابات إسرائيل إستراتيجية كانت أو داخلية، كما أن التقاء الكلمة بين السعودية وحلفائها العرب مع فرنسا، على قاعدة القانون، لا القوة المجردة يمنح الأمل بإمكانية كسر الحلقة المفرغة من التفاوض العبثي، ويمنح الفلسطينيين والعالم فرصة لتصحيح البوصلة؛ من منطق التفاوض تحت قوة الرصاص والصواريخ، إلى منطق الحلول القائمة على الحق والعدالة والكرامة الإنسانية.
لا شك أن هذا الزخم الإقليمي والدولي سيواجه بمعارضة أميركية في الجمعية العامة ومجلس الأمن، لكنه دون شك سيضع الولايات المتحدة وإسرائيل في مواجهة تيار دولي جارف، يحُدّ من قدرتهما على المناورة والاستئثار بالقضية الفلسطينية وحلولها، ويضع حدوداً للمدى الذي يمكنهما الذهاب إليه في تغيير واقع المنطقة وفق منهج «القوة هي الحق».
