فيلادلفيا نيوز
لم يعد الصراع بين الدول في القرن الحادي والعشرين محصورًا في ميادين القتال التقليدية ولا في سباق التسلح النووي أو العسكري فحسب، بل أصبح الفضاء السيبراني جزءًا أساسيًا من مشهد المواجهة العالمية. في هذا الفضاء الخفي تُدار ما يُعرف بحروب الظل، وهي نزاعات غير معلنة تستند إلى عمليات سرية وهجمات رقمية واستخباراتية تهدف إلى إضعاف الخصم أو السيطرة على موارده الحيوية دون أن تترك أثرًا واضحًا يقود إلى هوية الفاعل. هذه الحروب، بما تحمله من ضبابية وغموض، أعادت تعريف مفهوم القوة والنفوذ في النظام الدولي، وجعلت من الأمن السيبراني عنصرًا استراتيجيًا لا يقل أهمية عن الجيوش والأسلحة التقليدية.
حروب الظل ليست جديدة في أصلها؛ فلطالما اعتمدت الدول على الاستخبارات والعمليات السرية لتقويض خصومها من وراء الستار. لكن التحول الكبير جاء مع الثورة الرقمية التي فتحت المجال أمام مواجهة جديدة لا تُخاض بالسلاح والرصاص، بل بالشفرات البرمجية والبرامج الخبيثة التي يمكن أن تشل شبكة كهرباء أو توقف مطارًا دوليًا أو تعطل أنظمة مالية بأكملها في ثوانٍ معدودة. ومع تطور أدوات القرصنة والتجسس الإلكتروني، بات بالإمكان تنفيذ عمليات عابرة للحدود دون أن يعرف الضحية على الفور مصدر الهجوم أو دوافعه، وهو ما يزيد من تعقيد المواجهة ويجعلها أكثر غموضًا.
شهد العالم خلال العقدين الماضيين أحداثًا جسدت خطورة هذه الحروب الصامتة. ففي عام 2010، ظهر فيروس Stuxnet الذي استهدف البرنامج النووي الإيراني وألحق أضرارًا جسيمة بأجهزة الطرد المركزي، ليصبح أول سلاح سيبراني معروف مصمم خصيصًا لضرب منشأة صناعية. وفي عام 2017 اجتاح هجوم الفدية الشهير WannaCry مئات آلاف الأجهزة في أكثر من 150 دولة، معطلًا مستشفيات وشركات ومؤسسات حكومية. أما في عام 2020 فقد كشفت عملية اختراق SolarWinds هشاشة البنى التكنولوجية حتى في الدول الكبرى، بعدما تمكن المهاجمون من التسلل إلى مؤسسات حكومية أمريكية عبر سلسلة توريد برمجية. هذه الأمثلة ليست سوى إشارات إلى واقع أشمل، حيث يتحول الفضاء السيبراني إلى ساحة معركة غير مرئية لكنها قادرة على إحداث شلل عالمي.
اللافت أن اللاعبين في هذه الحروب لا يقتصرون على الدول. صحيح أن قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين وإيران تمتلك جيوشًا سيبرانية رسمية، إلا أن المشهد يزداد تعقيدًا مع دخول جماعات منظمة من قراصنة مدعومين أو شبه مستقلين، إضافة إلى ما يُعرف بالمرتزقة السيبرانيين الذين يبيعون خدماتهم لمن يدفع أكثر. هذه التعددية في الفاعلين تجعل من الصعب تحديد الجهة المسؤولة عن الهجمات، وهو ما يمنح حروب الظل مرونة كبيرة ويتيح استخدامها كأداة ضغط دون أن تصل إلى عتبة الحرب المعلنة.
انعكاسات هذه الحروب على الجغرافيا السياسية بالغة الأهمية. فالهجوم السيبراني أصبح أداة للضغط السياسي والاقتصادي، وقد يؤدي في بعض الحالات إلى تصعيد عسكري تقليدي إذا اعتبرته الدولة المستهدفة تهديدًا وجوديًا. ومن جهة أخرى، دفعت هذه التهديدات المتنامية إلى نشوء تحالفات أمنية جديدة، مثل الجهود التي يقودها حلف الناتو لوضع استراتيجية سيبرانية موحدة، إضافة إلى اتفاقيات دولية لمحاولة مواجهة الجرائم الإلكترونية. ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر في أن هذه الحروب تتجاوز الحدود، ما يجعل المواجهة الفردية من قبل دولة واحدة غير كافية دون تعاون دولي أوسع.
لمواجهة هذا الواقع، أصبحت الحاجة ملحة إلى بناء أنظمة دفاعية متطورة قادرة على رصد التهديدات والاستجابة لها بسرعة. مراكز العمليات الأمنية، المدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، أصبحت خط الدفاع الأول في المؤسسات والدول. لكن التكنولوجيا وحدها لا تكفي؛ فالعنصر البشري يبقى أساسيًا، مما يفرض على الدول الاستثمار في تدريب كوادر متخصصة قادرة على إدارة هذه المعارك الرقمية بكفاءة عالية. وفي الوقت نفسه، برزت أهمية الوعي المجتمعي لمواجهة أساليب التضليل ونشر الأخبار الكاذبة التي تشكل بدورها سلاحًا في حروب الظل.
لقد بات من الواضح أن الأمن السيبراني لم يعد ترفًا تقنيًا أو مسألة تخص الشركات فقط، بل هو ركيزة أساسية في الأمن القومي. فهجوم إلكتروني واسع النطاق قد يشل بلدًا بأكمله، ويؤدي إلى خسائر تعادل نتائج حرب عسكرية فعلية. ومع دخول تقنيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية وإنترنت الأشياء، فإن ميدان الصراع السيبراني سيزداد تعقيدًا، وقد نشهد سباق تسلح سيبراني على غرار الحرب الباردة، ولكن هذه المرة في عالم افتراضي لا يعرف الحدود.
المستقبل يضع أمام الدول تحديًا مزدوجًا: بناء دفاعات قوية تحمي البنى التحتية الحيوية، وفي الوقت نفسه تطوير استراتيجيات ردع تمنع الخصوم من المغامرة بشن هجمات قد تؤدي إلى فوضى عالمية. وفي ظل هذا المشهد، يبقى الأمن السيبراني وحروب الظل عنوانًا للمرحلة المقبلة من الصراع البشري، حيث لا يحتاج المعتدي إلى جيوش جرارة كي يحقق هدفه، بل يكفيه مبرمج ماهر وسطر من الشيفرة.
