الخميس , أغسطس 7 2025 | 6:33 م
الرئيسية / stop / الهويات المتقاطعة والحاجة إلى المصالحة في بلاد الشام والعراق

الهويات المتقاطعة والحاجة إلى المصالحة في بلاد الشام والعراق

فيلادلفيا نيوز

بقلم: المهندس سعيد بهاء المصري
وزير زراعة سابق / الأردن
تتناول هذه الورقة البحثية التشرذم الناجم عن الهوية في بلاد الشام والعراق. وتقترح تحالفًا فكريًا وشبكة شعبية لتعزيز المصالحة. والهدف هو تعزيز التماسك الإقليمي من خلال الحوار والثقة والتنمية المشتركة.
فسيفساء معقدة داخل الحدود وخارجها
يشكل بلاد الشام والعراق منطقة متشابكة جغرافيًا وثقافيًا، لا يقتصر تمايزها على الحدود الجغرافية، بل يتعمق في فسيفساء هوياتية متداخلة. في العراق، تمتد التنوعات على طول الخطوط الشيعية-السنية، والعرب-الكرد، واليزيدية-الكلدانية. أما في سوريا، فتتمحور الهويات حول الانتماءات العلوية والسنية والدرزية والكردية والمسيحية. ولا تزال الطوائف الثماني عشرة المعترف بها دستوريًا في لبنان تُشكل واقعًا سياسيًا مجزأً. في غضون ذلك، تشهد الأراضي الفلسطينية المحتلة والشتات انقسامات أيديولوجية وإقليمية عميقة بين الضفة الغربية وغزة وأراضي عام 1948. يضم الأردن أيضًا نسيجًا اجتماعيًا يتميز بأصول متنوعة، تشمل العشائر الأردنية، والفلسطينيين، والشركس، والشيشان، والأرمن، ومجتمعات أصغر من الكرد والدروز والأردنيين من أصل أفريقي، وجميعها تُحكم بنجاح من خلال مزيج من المواطنة الوطنية والاعتراف الضمني بالتمييزات القائمة على الهوية.
هذا التنوع ليس إشكاليًا في جوهره. تكمن المشكلة الحقيقية في غياب عقد اجتماعي حديث، عقد يحتضن التعددية ضمن إطار قانوني ومؤسسي قادر على منع التفكك في أوقات الأزمات.
ما بعد الانهيار: تفكك الدولة والمجتمع عموديًا وأفقيًا
ما حدث في العراق بعد عام 2003، وفي سوريا بعد عام 2011، وفي لبنان بعد انهيار نظام ما بعد الطائف، يُظهر تفككًا عموديًا (بين الدولة والمواطن) وأفقيًا (داخل المجتمع). لقد أدى نظام الحكم الطائفي في العراق إلى تجزئة الدولة إلى شبكات ولاء بدلًا من مواطنين موحدين. أدت الحرب الأهلية في سوريا إلى تدخلات خارجية غذّت النزعة الإقليمية والطائفية وهيمنة الميليشيات. وقد أدى تدهور البنية الطائفية في لبنان وانهيار اقتصاده إلى جعل الطوائف، وليس الدولة، الضامن الرئيسي لأمن الأفراد.
ووفقًا للرؤى التي عُرضت خلال مؤتمر منتدى الشام والعراق (عمان، يونيو/حزيران 2025)، أشار العديد من المشاركين إلى أن ما يقرب من ثلثي سكان المنطقة لا يثقون بالمؤسسات السياسية الرسمية، حيث يُعطي الكثيرون الأولوية للانتماءات الطائفية على الهوية الوطنية. رغم أن هذه الأرقام تُعدّ قصصًا عابرة، إلا أنها تتوافق بشكل عام مع نتائج دراسة الشباب الإقليمية التي أجرتها مؤسسة فريدريش إيبرت ستيفتونغ للفترة 2021-2022 (الجيل المحروم)، والتي استطلعت آراء 12,000 شاب وشابة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – بما في ذلك سوريا ولبنان والعراق والأردن – ووثّقت انخفاض الثقة في الحوكمة ورغبة سائدة بين الشباب في الهجرة.
العلاقات الإقليمية رهينة تحالفات الهوية
عندما تتأثر العلاقات بين العراق وسوريا، أو الأردن ولبنان، أو فلسطين والعراق، بنظرة فصائل كل دولة إلى هويات الأخرى، فإن أي حديث عن التكامل الإقليمي يجب أن يبدأ بإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع داخل كل دولة. غالبًا ما تُقوّض التحالفات الداخلية التضامن الرسمي بين الحكومات: فالكرد العراقيون لديهم آراء مختلفة عن الحكومة المركزية بشأن سوريا، ويرى السنة العراقيون الأردن حليفًا طبيعيًا، وتعتبر بعض الفصائل الشيعية لبنان امتدادًا استراتيجيًا. وبهذه الطريقة، تصبح الجغرافيا قناةً لحسابات الهوية بدلًا من أن تكون منصةً للتعاون.
التشابكات الإقليمية: إيران وتركيا كجزء من معادلة الهويات
لا تقتصر أبعاد التشرذم الهوياتي في بلاد الشام والعراق على السياقات الداخلية، بل تتأثر بشكل بالغ بالتدخلات الإقليمية من قوى جوار مثل إيران وتركيا. ففي العراق وسوريا ولبنان، أسهمت السياسات الإيرانية في تعزيز انقسامات طائفية من خلال تمكين فصائل بعينها، بينما تمارس تركيا تأثيرًا مباشرًا على الملف الكردي وعلى الخارطة السكانية في شمال سوريا. ومن دون فهم هذا البُعد الجيوسياسي المتداخل مع الهويات المحلية، يصعب تصور مشروع مصالحة مستدام لا يأخذ بعين الاعتبار ديناميكيات النفوذ الخارجي على البُنى الاجتماعية والسياسية الهشة في المنطقة.
التعليم والإعلام كرافعتين لهوية جامعة
إلى جانب المبادرات المجتمعية والفكرية، لا يمكن تجاهل أهمية الإعلام والمناهج التعليمية في تشكيل الوعي الهوياتي. لقد ساهم الخطاب الإعلامي المنحاز والمناهج الطائفية أو القومية الضيقة في ترسيخ الصور النمطية والانتماءات المتصلبة. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى مراجعة شاملة للمحتوى التعليمي والإعلامي، بما يعزز الهوية الجامعة، ويرسّخ قيم التعددية والمواطنة، ويفتح الباب أمام سرديات تشاركية تُكرّس قيم الاحترام والتفاهم بدل الإقصاء والتخوين.
نحو مصالحة فكرية ومجتمعية تتجاوز الهويات الجامدة
لا يبدأ الحل بالدساتير فحسب، بل يبدأ من قمة التفاعل الفكري. ومن هنا تأتي أهمية اقتراح إنشاء تحالف فكري بين بلاد الشام والعراق (منتدى الشام والعراق)، ليكون بمثابة منصة إقليمية دائمة للحوار، وتوليد المعرفة، وصياغة خطاب موحد يتجاوز الانقسامات التاريخية والهويات المتصلبة.
سيكون هذا التحالف بمثابة شبكة فكرية مرنة عابرة للحدود، تجمع مراكز الفكر ومؤسسات البحث من جميع أنحاء المنطقة. ويتمثل دوره في تنسيق المبادرات، واحتضان المشاريع التعاونية، وإثراء عملية صنع السياسات بأفكار عملية – متحررة من القيود السياسية أو الحزبية. كما يمكن أن يكون بمثابة مظلة فكرية للحوار الشعبي، مما يساعد على بلورة رؤى مشتركة للتماسك الاجتماعي، والمصالحة، والتربية المدنية الشاملة.
المشاركة المجتمعية العميقة: شبكة مصالحة شعبية
بالتوازي مع الإطار الفكري والتنظيمي، يجب تفعيل شبكة مصالحة شعبية. وترتكز هذه الشبكة على الجمعيات المحلية ومنظمات المجتمع المدني، وينبغي لها:
• إطلاق حوارات مجتمعية في المناطق الحضرية والريفية المنقسمة؛
• تدريب القادة الشباب على حل النزاعات والتسامح الثقافي؛
• دعم مبادرات التنمية التشاركية بين المجتمعات المتنوعة؛
• توثيق السرديات المجتمعية التصاعدية لبناء سردية مضادة للخطاب الرسمي المُسيّس.
إعادة بناء مجتمع متماسك من خلال التنمية والشراكة الاقتصادية
لا ينفصل تحقيق المصالحة المجتمعية الحقيقية عن تحسين الظروف المعيشية وتوسيع الفرص الاقتصادية. يتطلب بناء مجتمع متماسك ومتعايش في بلاد الشام والعراق إطلاق مشاريع تنمية مستدامة ترتكز على الاحتياجات المحلية وتُدار بروح تشاركية. لا تقتصر هذه المشاريع على تحقيق منافع اقتصادية فحسب، بل تُعمّق أيضًا الشراكات بين المواطنين، وتستعيد الثقة بين المكونات الاجتماعية، وتعزز المشاركة البناءة بين المجتمعات.
على الصعيد الإقليمي، يمكن لهذه المشاريع أن تُرسي أسس روابط اقتصادية أقوى من خلال شبكات التبادل الزراعي، وسلاسل التوريد الصناعية، والبنية التحتية العابرة للحدود. كلما تعمق الترابط الاقتصادي، ضعفت دوافع الصراع والتشرذم، وعززت المصالح المشتركة التي تستحق الحفاظ عليها.
نداء ختامي للنخب والمجتمعات:
إن مستقبل بلاد الشام والعراق لا يُبنى عبر تسويات فوقية فحسب، بل يتطلب نهوضًا فكريًا وجماهيريًا عابرًا للهويات الجامدة، يعيد الاعتبار لكرامة الإنسان، ويمنح الأولوية للمواطنة والسلام الاجتماعي على حساب الهيمنة والاستقطاب. ومن هنا، فإننا نوجه نداءً إلى المفكرين، والمجتمع المدني، والقيادات الشابة، وكل من يؤمن بإمكانية التغيير، للعمل معًا على إنتاج خطاب إنساني موحّد، يضعنا جميعًا على طريق التعايش البنّاء والشراكة المستدامة.

طباعة الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تنويه
• تتم مراجعة جميع التعليقات، وتنشر عند الموافقة عليها فقط.
• تحتفظ " فيلادلفيا نيوز" بحق حذف أي تعليق، ساعة تشاء، دون ذكر الأسباب.
• لن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة، أو خروجا عن الموضوع محل التعليق، او يشير ـ تصريحا أو تلويحا ـ إلى أسماء بعينها، او يتعرض لإثارة النعرات الطائفية أوالمذهبية او العرقية.
• التعليقات سفيرة مرسليها، وتعبر ـ ضرورة ـ عنهم وحدهم ليس غير، فكن خير مرسل، نكن خير ناشر.
HTML Snippets Powered By : XYZScripts.com