الجمعة , يونيو 6 2025 | 8:53 م
الرئيسية / stop /  الدكتور محمد رسول الطراونة* يكتب : غزة يا وجع القلب: صرخةٌ لا تتوقف ونداءٌ للضمير الإنساني

 الدكتور محمد رسول الطراونة* يكتب : غزة يا وجع القلب: صرخةٌ لا تتوقف ونداءٌ للضمير الإنساني

فيلادلفيا نيوز

غزة ليست مجرد بقعة جغرافية على الخريطة، إنها مرآة تعكس ألم الإنسانية المتفاقم، وصرخة تستدعي ضمير العالم. مجرد أن يُذكر اسمها يثير في النفوس مزيجاً من الألم، والغضب، والحسرة ، غزة جرح غائر في جسد الإنسانية، ووجع مستمر ينزف في قلب كل من يرى ويسمع.
ها هي غزة تقف، قطاعاً صغيراً بمساحة الجغرافيا، هائلاً بضخامة المأساة، تشهد على أحد أبشع فصول الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في العصر الحديث، تحت سمع وبصر العالم الذي يدّعي التحضر والإنسانية. منذ عشرين شهرا، وغزة تختنق تحت ركام القصف، تئن تحت وطأة التجويع، وتصرخ من خذلان عالمٍ بدا وكأنه فقد بوصلته الانسانية و الأخلاقية، غزة قصة أليمة تتكشف فصولها يوماً بعد يوم، معلنة عن مأساة غير مسبوقة في تاريخ البشرية الحديث.
غزة ، أنهار من الدماء، وسكان تحت الأنقاض، لا تكاد تمر ساعة إلا وتُضاف أرقام جديدة إلى قوائم الشهداء التي تطول بلا رحمة، عشرات الآلاف من الأبرياء، بينهم ما يزيد عن ثمانية عشر ألف طفل، راحوا ضحية القصف المتواصل،أطفال كانوا يلعبون، نساء كنّ يعدن ما تيسر من الطعام، شيوخ في بيوتهم، شباب يحلمون بمستقبل.. تحولوا جميعاً إلى أرقام في سجلات الموت، شهداء على مذبح الاحتلال الغاشم،كل شهيد هو قصة عائلة دُمّرت، مستقبل أُجهض، وذاكرة أليمة تُضاف إلى رصيد غزة من الألم.
أما الدمار المادي في غزة فقد وصل إلى مستويات غير مسبوقة ؛ أكثر من 70% من مباني القطاع تعرضت للتدمير الكلي أو الجزئي، أحياء بكاملها مُسحت من الوجود، شوارع تحولت إلى جبال من الإسمنت المسلح والذكريات المدفونة، مئات الآلاف من السكان بلا مأوى ؛ أكثر من 1.9 مليون نسمة (أكثر من 85% من سكان القطاع) نزحوا عن ديارهم، يعيشون في خيام هزيلة أو مدارس مكتظة بلا ماء نظيف ولا غذاء كافٍ ولا أدنى شروط الحياة الكريمة، تحت قصف لا يتوقف.
لعل الجانب الأكثر إيلاماً في هذه الكارثة هو الاستهداف المباشر والممنهج للمنظومة الصحية. المستشفيات والمراكز الصحية، المحمية بقوانين الحرب الدولية، تحولت إلى أهداف مباشرة. أكثر من سِتة وَعِشرين مُستَشفًى من أصل ستة وثلاثين خرجت كلياً عن الخدمة، والبقية تعمل بأقل من 20% من طاقتها. هذا ليس مجرد تدمير للبنية التحتية الطبية؛ إنه حكم بالإعدام البطيء على آلاف المرضى والجرحى الذين لا يجدون مكاناً للعلاج، نقص فادح في الأدوية، وانهيار في التيار الكهربائي والوقود، مما أفقد الأجهزة الطبية الحيوية (كأجهزة التنفس والحاضنات) قدرتها على العمل، عمليات جراحية تُجرى دون بنج كافٍ أو تعقيم مناسب، مرضى السرطان والكلى والفشل التنفسي يموتون بصمت، جرحى ينزفون حتى الموت على أبواب المستشفيات المغلقة أو المكتظة بما يفوق طاقتها بمئات المرات، مشهدٌ لا يليق ببشرية القرن الحادي والعشرين. انتشار الأوبئة والأمراض المعدية بات أمراً حتمياً في ظل نقص المياه النظيفة وسوء الصرف الصحي وتكدس النازحين في مناطق محدودة، مما يزيد من حجم الكارثة الصحية أضعافاً مضاعفة.
تتواصل هذه الفظائع تحت غطرسة احتلال يتجاهل كل القوانين الدولية والأعراف الإنسانية، يمارس أبشع أنواع العقاب الجماعي، ويحرم المدنيين من أبسط مقومات الحياة، ضارباً بعرض الحائط كل المناشدات والقرارات الدولية.
وفي خضم هذه الكارثة الإنسانية، يبدو خذلان الأمة العربية والإسلامية والعالم بأسره لغزة مؤلماً بقدر حجم الدمار. على الرغم من موجات الغضب العارمة في الشارع العربي والإسلامي، وعلى الرغم من البيانات الدبلوماسية والقمم الطارئة، يبقى الفعل المؤثر غائباً و الفجوة بين خطابات الزعماء وحجم الكارثة في غزة سحيقة، أما العالم، فبين متفرج صامت يراقب الكارثة دون أن يحرك ساكناً، أو داعم صريح للاحتلال يبرر أفعاله ويمنحه الغطاء السياسي والعسكري، أو عاجز عن فرض إرادته لوقف نزيف الدم.
المجتمع الدولي، بقيادة القوى العظمى، يقدم دروساً قاسية في النفاق ، حقوق الإنسان، القانون الدولي، مبادئ جنيف.. كلها تُعلّق عند باب المصالح. استخدام حق النقض (الفيتو) لحماية جرائم الحرب الإسرائيلية، والتلويح بالقلق مع استمرار التمويل والتسليح للاحتلال، وتحويل القضية إلى نقاشات بيروقراطية لا تنقذ طفلاً واحداً.. كلها أدلة على خذلان تاريخي، فصمتهم وتقاعسهم شريك في الجريمة.
العالم كله شاهد على غطرسة الاحتلال حيث تتجلى في أبشع صورها: قصف لكل شيء، البيوت، المدارس، الجامعات، المساجد، الكنائس، مراكز الإيواء، طوابير الخبز، سيارات الإسعاف، الصحفيين.. لا حرمة ولا حصانة، كل هذا مدعوم بخطاب إبادة علني، تصريحات مسؤولين إسرائيليين تتباهى بالتدمير وتصف سكان غزة بـ” الحيوانات ” وتدعو لاجتثاثهم، تُلقى دون أي حساب أو استنكار دولي فعال. حصار وحرب تجويع و جوع: حيث يستخدام المحتل التجويع كسلاح جماعي ضد مدنيين، بمنع دخول الغذاء والماء والدواء والوقود، هو جريمة حرب بحد ذاته.
رغم كل هذا الوجع، تظل غزة صامدة. أهلها، الذين فقدوا كل شيء إلا كرامتهم وإيمانهم، يقدمون دروساً في الصبر والتضحية لا تُنسى، صمودهم يبعث برسالة واضحة: غزة لن تموت، وستنهض من تحت الركام مهما بلغت التضحيات، ومهما طال أمد المعاناة.
آن الأوان لأن يستفيق الضمير العالمي من سباته العميق، وأن تترجم الأمة أقوالها إلى أفعال حقيقية ومؤثرة، آن الأوان لتتوقف هذه المجزرة، ولتُفتح المعابر بشكل دائم وكامل، ولتُعاد الحياة إلى غزة بأسرع وقت ممكن، فجرح غزة ليس جرحها وحدها، بل هو جرح كل من يمتلك قلباً ينبض بالإنسانية في هذا العالم.
خاتمة الكلام ، غزة يا وجع القلب.. أنتِ اختبار حقيقي للإنسانية ولأمة تدّعي الانتماء،الدماء تسيل ، والأجساد تُدفن تحت الركام، والأطفال يموتون عطشاً وجوعاً ومرضاً، والمستشفيات أصبحت شواهد على جريمة العصر، التاريخ سيسجل هذه الجرائم، وسيسجل أيضاً حجم الخذلان . فهل تنهض الأمة من سباتها؟ وهل يستفيق العالم من غيبوبته الأخلاقية قبل أن تغرق غزة تماماً في الظلام؟ السؤال معلق، والوقت ينفد، ووجع القلب يتعمق مع كل شهيد جديد، ومع كل صرخة طفل تحت الركام. غزة تنزف.. فإلى متى؟
*أمين عام المجلس الصحي العالي السابق

طباعة الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تنويه
• تتم مراجعة جميع التعليقات، وتنشر عند الموافقة عليها فقط.
• تحتفظ " فيلادلفيا نيوز" بحق حذف أي تعليق، ساعة تشاء، دون ذكر الأسباب.
• لن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة، أو خروجا عن الموضوع محل التعليق، او يشير ـ تصريحا أو تلويحا ـ إلى أسماء بعينها، او يتعرض لإثارة النعرات الطائفية أوالمذهبية او العرقية.
• التعليقات سفيرة مرسليها، وتعبر ـ ضرورة ـ عنهم وحدهم ليس غير، فكن خير مرسل، نكن خير ناشر.
HTML Snippets Powered By : XYZScripts.com