فيلادلفيا نيوز
أورشليم ‘ القدس’ زهرة المدائن وعروس مشرقنا، منبع الأنبياء ومهد الرسالات السماوية، تلك المدينة المتألمة التي عايشت ولادة المسيح، التي في قُراها طاف وعلّم وتحت سمائها اجترح العجائب والآيات. القدس تلك المدينة التي كانت درب آلامه وعذاباته ماشياً على ثراها حاملاً صليبه في أزقتها نحو الجلجلة في طريقه إلى الموت، القدس التي ما زالت تعيش الآلام والموت حتى اليوم، هذه الأرض المباركة التي شهدت للمسيح على مر العصور، وأخرجت للكنيسة عظماءها.
قُدسنا الشريفة هي أرض العزة والمجد، منها خرجت بشارتنا إلى كل المسكونة، بشارة الخلاص بالقيامة المجيدة، القدس كانت وستبقى منارةُ مشرقنا، فثراها اختلط بدماء أبنائها القديسين الذين ماتوا لأجلها كي يبقى نورها مُشعاً نحو السماء، نحو أورشليم العلوية.
القدس تلك المدينة التي اضُطهدت ودُمرت واُضطهد شعبها في زمن الحاكم الروماني تيطس عام 70 ميلادي عندما دخلها فقام بتدميرها وتهجير أهلها وساكنيها، وقد شُرِّد أهلها من المسيحيين فذهبوا برفقة سمعان بن يوسف النجار ‘ ثاني أساقفة أورشليم ‘ أخو يعقوب أول أساقفة أورشليم إلى شرق الأردن في منطقة بيلا ‘ طبقة فحل ‘ وأقام فيها الكنيسة المقدسة وبقيت هناك حتى منتصف القرن الرابع الميلادي حيث عاد إلى القدس بعد إيمان الملك قسطنطين برسالة المسيح وإعلان دين الدولة المسيحية وهكذا عادت الكنيسة إلى القدس.
القدس تلك المدينة القابعة تحت الاحتلال الصهيوني الهادف إلى تهويدها المُنظم والذي مرّ على عدة مراحل :
– مرحلة الحكم العثماني حيث تم إنشاء أول مستوطنة ‘ مكفيه يسرائيل ‘ وتعني أمل إسرائيل عام 1870م، بموافقة السلطان العثماني آنذاك ودعمه على مساحة (2600 دونم ) من أراضي يازور وسلمة وقضاء يافا.
– مرحلة الانتداب البريطاني حيث تم إنشاء مستوطنة ‘ طمرة الزعبية ‘ عام 1918م، وهي قرية عربية وليست مستعمرة ولكن تم تسميتها لتمييزها عن مدينة طمرة في قضاء عكا.
– مرحلة قيام الكيان الصهيوني حيث تم إنشاء مستوطنة ‘ ألوني أبا ‘ بلوطة أو سنديانة أبا عام 1948م، على مساحة ( 7200 دونم ) من أراضي أم العمد.
– مرحلة ما بعد النكسة ولغاية ما قبل أوسلو حيث تم إنشاء مستوطنة ‘ بت حن ‘ بنت النعمة أو الشفقة عام 1967م، على أراضي وادي القبّاني وأم خالد قضاء طولكرم.
– مرحلة من أوسلو ولغاية اليوم حيث تم إنشاء مستوطنة ‘ بنت المجد والشرف ‘ عام 1994م، على أراضي الجية ونعليا والمجدل بالقرب من عسقلان قضاء غزة .
القدس تلك المدينة القابعة أيضاً تحت التسلط اليوناني منذ تسلم البطريرك اليوناني جرمانوس البليوبوينسي عام 1534م، والذي سامه البطريرك العربي عطالله بعد قدومه كزائر إلى الأراضي المقدسة قادماً من مصر حيث احتك بالرهبان وأتقن اللغة العربية لدرجة أنه لم يظهر عليه بأنه يوناني الأصل وبرهن على مقدرته القيادية في إدارة الكنيسة حتى سامه البطريرك العربي عطالله شماساً وترقى في درجات الإكليروس حتى تسلّم عرش البطريركية بعد استقالته.
حينها دخلت بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية في عهده بــ يوننة الكنيسة على حساب الأبناء الوطنيين، كما دخلت الكنيسة بما يُعرف حرب الأماكن المقدسة مع اليهود والأرمن واللاتين واعتبر أن الأماكن المقدسة هي تحت وصايتهم وحدهم –اليونان.
وقد قام بتأسيس أخوية القبر المقدس وأسس نظام داخلي وسنّ قانوناً لأعضائها كي تكون تركتهم ليس لذويهم بل للأخوية، واعتبر أن جميع الأوقاف الكنسية هي مُلك للأخوية وللأمة اليونانية، حيث كان أول وأهم البنود في القانون الجائر بحق الرعية الأرثوذكسية. أن القبر المقدس وجميع ملحقاته وسائر مزارات فلسطين وأديارها، وكل مؤسساتها الخيرية في فلسطين وخارجها للبطريرك رئيس الأخوية وهي جميعها مُلك للأمة اليونانية. للأخوية حق الملكية الكامل على أموالها في فلسطين وخارجها، ويمكنها التصرف بها بكامل حريتها ومطلق رغبتها. تُقدم الأخوية في حدود إمكاناتها ومواردها وبكامل حريتها وبدافع من الالتزام الأدبي فقط الأموال الضرورية لترميم الكنائس القائمة وبناء كنائس جديدة .
ومنذ ذلك الحين قام البطريرك جرمانوس بزيادة الرهبان من الجنسية اليونانية وتعيينهم كأساقفة عند موت أي أسقف وطني حتى أصبح جميع الأساقفة في البطريركية المقدسية من الرهبان اليونان، حيث بقي بطريركاً للكرسي الأورشليمي لمدة 45 سنة. قبل أن يستقيل و يتم تعيين خليفته البطريرك صفرونيوس عام 1579 بالتآمر مع بطريرك الإسكندرية والذي اتبع نهج سلفه جرمانوس الذي بقي متابعاً وموجهاً إياه في إدارة الكنيسة والاكتفاء في إدخال العنصر اليوناني على حساب العنصر الوطني من أبناء الأرض الوطنيين لئلا يستلمون مناصب عليا في الكنيسة.
وهكذا بقي الحال حتى جاء البطريرك بايسيوس فناهضه الكهنة والمتوحدين وكانوا من الوطنيين فاستخدم سلطاته بالتعاون مع السلطة العثمانية فقاصصهم وأصدر قانوناً أشدُّ وطأةً على الوطنيين من الأرثوذكس من قانون جرمانوس بأن لا يُسمح بقبول أحد من أبناء الكنيسة الأورشليمية الوطنيين ليس لدرجة الأسقفية فقط! بل لأي درجة من الإكليروسية والرهبانية، وحصر الوظائف بالعنصر اليوناني فقط .
مع الأسف، أصبح هذا حال كنيستنا الأورشليمية المقدسية أم الكنائس لغاية اليوم حيث يمُنع أبناء الكنيسة من الدخول في السلك الرهباني والاكتفاء بدخول وسيامة العنصر اليوناني كأمناء على الأوقاف الكنيسة وأديرتها ومزاراتها بموجب قانون أخوية القبر المقدس الذي وضعة بداية البطريرك جرمانوس وتم تفعيله البطريرك واكتمال بنوده البطريرك ذوسيثيوس 1669.
وحيث أن بطريركية أورشليم المقدسية تمتلك أكثر من 25% من مساحة فلسطين ‘ البلدة القديمة ‘ نتيجة تبرع الآباء والأجداد بالأراضي للكنيسة لتكون وقفاً كنسياً لئلا يصادرها الحاكم العثماني أصبحت تحت إمرة الرهبان اليونانيين باعتبارها وبحسب قانون أخوية القبر المقدس ‘ مُلك للأمة اليونانية ‘. وقعت هذه الأوقاف تحت خطر التسريب كونهم غرباء عن هذه الأرض ولا يعرفون ما تعنيه هذه الأرض وهذه الأوقاف لأبنائها الوطنيين من الأرثوذكس وللعالم أجمع، فمنذ تأسيس كنيسة أورشليم عام 34م والأديرة والأوقاف تحت تهديد الوثنيين الرومان واليهود، فلم توقفوا يوماً عن مناكفة المسيحيين ومحاولة مصادرة أوقاف الكنيسة لولا صمود أبناء الأرثوذكس الوطنيين سكان الأرض المقدسة من العرب واليهود والوثنيين والأحباش والكرج الذي الذين آمنوا بالمسيح .
وبحسب تاريخ الكنيسة المقدسة؛ فإن أبناء الأرثوذكس من الوطنيين العرب كانوا أشد بأساً في الدفاع عن الأوقاف واستعادة ما تم نهبه ومصادرته من اليهود والأرمن والإفرنج واللاتين بفعل السلطة والرشاوي التي كانت تمنح للحكام آنذاك من قبل اليهود وغيرهم، وها هو التاريخ يُعيد نفسه اليوم ولكن بطريقة أشد ألماً من سابقها، حيث أن اليهود يدفعون لرئاسة الكنيسة الأرثودكسية من اليونانيين الأموال الطائلة لتملك أراضي وعقارات وأوقاف كنسية من أجل إقامة وحدات استيطانية ضمن مشروعهم التوسعي والسيطرة على القدس لإعلان دولتهم الكبرى ‘ إسرائيل ‘.
وقد أعلنت الصحف الإسرائيلية مؤخراً أن البطريركية قد أبرمت أكثر من صفقة بيع أو تنازل أو تأجير طويل الأمد للشركات الإسرائيلية ‘ الاستيطانية ‘، كان آخرها صفقة رحابيا التي ما أنكرت البطريركية بيعها من خلال بيانها الركيك التي أصدرته. وكان قد سبق ذلك عدة صفقات نذكر منها ‘ قيسارية ‘ والتي بيعت العام الماضي وأنكرتها البطريركية ولكن لا ندري ربما في الأيام والأسابيع القادمة سيتم تأكيدها -ما هي إلا مسألة وقت- لتصفية ما تبقى من أوقاف الكنيسة وكذلك المدرج الروماني في قيسارية وهو وقف أرثوذكسي تم بيعه بحسب إحدى الصحف الإسرائيلية بتاريخ 8-6-2017، وكذلك في العام 2011 اشترت شركة ‘نيوت قوماميوت’ والتي يملكها الإخوة بن دافيد حقوق الإيجار لــ 550 دونم في مركز القدس لمدة 110 سنة.
وبحسب القانون يحق للبطريركية الأرثوذكسية ممثلة بشخص البطريرك منفرداً التصرف بالأملاك والأوقاف الكنسية بيعاً وشراءً بصفته رئيساً للمجمع المقدس وبنفس الوقت ‘رئيساً لأخوية القبر المقدس ‘ والتي تعتبر أن جميع الأوقاف والمزارات وما يخصها داخل فلسطين وخارجها مُلك للأمة اليونانية، كما وأن البطريركية المقدسية تخضع للقانون الأردني رقم 27/1958 والبطريرك أيضاً منفرداً وبحسب القانون هو من يمثل المسيحيين، وحيث أن المادة 12 من القانون الأردني تمنح البطريرك صفة معنوية يحق له من خلالها التصرف بالأملاك وبيعها أو تأجيرها لخدمة الكنيسة.
ولكن الناظر إلى حال الكنيسة فإنه يرى أي حالٍ وصلت إليه الكنيسة نتيجة التقصير المادي من قبل البطريركية في حق كنائسها المنتشرة في الأردن وفلسطين؛ فرواتب الكهنة على سبيل المثال تتأخر لمراتٍ ومرات… والسؤال الذي يطرح نفسه الآن أين تذهب تلك الأموال نتيجة التأجير والبيوعات ؟! ولمن يتم تحويلها ‘تهريبها’ وكيف ولصالح من؟!
أما وتخضع البطريركية الأورشليمية المقدسية للقانون الأردني؛ فهنا أقف متسائلاً أليس من حق وواجب الحكومة الأردنية بصفتها صاحبة الولاية العامة مساءلة المدعو بطريركاً بصفته الشخص المسؤول عن كل تلك التصرفات كي يقدم تصريحاً واضحاً لكل البيوعات التي تمت بكل شفافية – وله الحق أن ينكرها ولكن بالوثاق وليس بالبيانات الباطلة وهنا لا اقصد بيانات لتجميل القبيح لأن الواقع يقول كل شيء عكس ما يحاولون إيصاله للرعية وللشعب والحكومة الأردنية.
كما ويجدر بالمدعو بطريركاً أن يُقدم كشفاً يوضح فيه أملاك الكنيسة الأرثوذكسية المؤجر منها والمستثمر من قبل الكنيسة أو أبناء رعيتها والمبيوع لشركات استيطانية وأخرى أجنبية، تلك الأوقاف والتي هي مُلكٌ للشعب الأرثوذكسي لأنها منه وله وليس لأحدٍ غيره، كما أنه يجب عليه أن يلتزم بتنفيذ القانون الأردني والتعهدات التي التزم بتنفيذها أمام وزير الداخلية الأردني في العام 2005م لدى انتخابه بطريركاً للمدينة المقدسة، أفلا يكفي أنه لا يلتزم بتنفيذ القوانين الكنسية والتي يخالفها منذ توليه المنصب؟! أما وأن الأماكن المقدسة تحت وصاية الهاشميين فحريٌ ‘ بالمدعو بطريركاً ‘ أن يحترم تلك الثقة الممنوحة له من قبل الهاشميين وأن لا يفرط بشبرٍ واحد من أملاك الكنيسة للصهاينة لخدمة مشروعهم الأزلي.
قُدسنا أرض القداسة تتدنس من مُغتصبيها ومنّا من يُشاركهم في هذا- إمّا بالصمت وأغلبنا من هذه الفئة نصمت غير مبالين بما يحدث، وآخرون هُم من يُساومون بأملاك أجدادنا الذين كابدوا المشقات والعذابات كي تبقى القدس منبع قداسة.
إن صمتنا عن مصير كنيسة القدس رُغم هذا التفريط في ممتلكاتها والتي كانت تضم خمس أراضي القدس القديمة هو تخلٍ عن هويتنا الرومية والعربية المقدسية ونزع بذورٍ معطرة ومروية بدماء الشهداء كي تنمو وتثمر للعالمِ سلام . إن ثباتُنا في هذه الأرض هو ثباتُ كنيستنا الأرثوذكسية المقدسة… هذا التراث العريق هو في عُهدتنا طالما أننا باقون في هذه الأرض، فالكنيسة هي إرثنا الإلهي المقدس ودين في رقابنا لابد وأن نسدده…