فيلادلفيا نيوز
بكل الشواهد، لم يكن تحرك جلالة الملك، حفظه الله، خلال أزمة غزة مجرد استجابة للأحداث الجسيمة، بل كان قيادة استراتيجية واضحة المعالم تهدف إلى ضمان أن يُفضي أي وقف لإطلاق النار إلى “سلام مستدام”. و هذا موقف ملكي هاشمي اردني ثابت على مدى العقود. المشروع دائما هو اكبر من وقف لاطلاق النار، او تخفيف لوطأة العدوان على الشعب العربي، على اهميتها، بل هو سلام عادل، و متكامل، و قابل للاستمرار. انها رؤية استراتيجية عابرة للازمات و الحكومات.
ارتكز الدور الملكي الدبلوماسي والسياسي خلال ازمة غزة على ثلاثة محاور رئيسية استخدم فيها جلالته ثقل الأردن وعلاقاته الدولية.
أولاً: الدبلوماسية الضاغطة لتصويب مسار العدالة العالمية. قام جلالة الملك بتفعيل دبلوماسية قمم نشطة وغير مسبوقة، ركزت على تحويل الأزمة من شأن إقليمي إلى قضية ذات أولوية عالمية تتطلب حلاً سياسياً عادلاً. و من ذلك الجولات المكوكية وحشد الإرادة الدولية عبر سلسلة من الجولات الدبلوماسية الماراثونية في عواصم القرار الرئيسية (الولايات المتحدة، و العواصم الاوروبية و العربية)، حاملاً رسالة موحدة وقوية تجرم العقاب الجماعي، و حصار المدنيين وحرمانهم من مقومات الحياة الأساسية و الذي هو انتهاك فاضح للقانون الدولي الإنساني يرقى إلى جريمة حرب.
و كذلك كان جلالته اول من حذر من الانفجار الإقليمي اذا استمر العدوان على غزة في ظل غياب تام للافاق السياسية. و هنا عمل جلالته على تثبيت التهجير كخط احمر نهائي، و وجودي. اذ شكل رفض التهجير للفلسطينيين من غزة أو الضفة الغربية أولوية قصوى للدبلوماسية الملكية، و لم تكن قابلة للتفاوض.
ثانياً: التأثير على مواقف الدول الكبرى ومراكز صنع القرار. كان لجلالة الملك المبادرات الواضحة و المباشرة في تعديل مسار مواقف بعض الدول المؤثرة و التي ساهمت في توحيد الموقف الإقليمي و العالمي. حيث نجح جلالته في كسر حاجز الصمت و التردد الذي ابدته بعض العواصم الغربية في المرحلة الاولى من الأزمة، دافعاً إياها إلى الاعتراف بالكارثة الإنسانية والبدء في المطالبة بزيادة المساعدات ثم بوقف إطلاق النار. و هنا قام جلالته بممارسة ضغطاً مستمراً على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لربط وقف إطلاق النار بأفق سياسي واضح، تحت عنوان حل الدولتين. و قد ادى ذلك الى اعترافات متتالية بالدولة الفلسطينية.
و هنا ايضا عمل جلالة الملك على توحيد الموقف العربي والإقليمي من خلال تنسيق الجهود بداية مع مصر وقطر و هما وسطاء المفاوضات، و انتهاءا بجميع دول الاقليم. و نسق جلالته الجهود الدولية في الاغاثة الانسانية و قاد بنفسه الجسور والإنزالات الجوية للمساعدات، لتعزيز موقفه السياسي و المعنوي وتوفير غطاء إنساني ضاغط على المجتمع الدولي. و كذك عمل جلالته على استخدام المنابر الدولية كالأمم المتحدة والمنظمات العالمية للمطالبة بالمساءلة الدولية وتحقيق العدالة.
ثالثاً: الإطار الاستراتيجي برؤية حل الدولتين والوصاية الهاشمية على المقدسات. ان الإصرار على حل الدولتين، مدعوماً بدور الوصاية الهاشمية، يشكلان الاعمدة الاساسية لاستراتيجية السلام المستدام للملك عبد الله الثاني. اذ اكد جلالته في كل محفل أن حل الدولتين هو الخيار الاستراتيجي الوحيد الذي يضمن الأمن للجميع، و ان اية بدائل اخرى ستكون مؤقته و محكومة بالفشل، و سببا في إعادة إنتاج العنف. و بالتالي فأن وحدة الأرض الفلسطينية و رفض تقسيم الضفة الغربية وغزة، اضافة الى الاصرار على قيام دولة فلسطينية مستقلة على خطوط 4 حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، مع الاحتفاظ بالوصاية الهاشمية على المقدسات، تشكل مجتمعة ركائز السلام المستدام.
إن دور الملك عبد الله الثاني ينبع من استراتيجية شاملة تستخدم الدبلوماسية، والقانون الدولي، والدعم الإنساني كأدوات متكاملة لدفع المجتمع الدولي الى الانتقال من إدارة الصراع إلى بناء سلام حقيقي وعادل يمكن أن يستدام عبر الأجيال. هدف جلالته الاسترايجي هو تحويل الأزمة الأليمة إلى فرصة لفرض واقع سياسي جديد. و بالتالي فان وقف اطلاق النار في غزة و تبادل الاسرى و البدء في عملية سياسية يعد تتويجا لجهود جلالته، و تستحق التوقف عندها. و لكنها بنظر جلالة الملك، اطال الله في عمره، ليست خط النهاية بل مرحلة مهمة نحو مشروعه الاستراتيجي للسلام المستدام.
