الثلاثاء , يونيو 3 2025 | 11:56 م
آخر الاخبار
الرئيسية / stop / الدكتور محمد رسول الطراونه يكتب :  مستشفى البشير: حيث لا تنام الإنسانية

الدكتور محمد رسول الطراونه يكتب :  مستشفى البشير: حيث لا تنام الإنسانية

فيلادلفيا نيوز

في قلب عمان ، وعلى تلة تشهد على تاريخ طويل من العطاء، يقف مستشفى البشير شامخاً، إنه ليس مجرد بناء من الطوب والأسمنت فحسب، بل هو قصة إنسانية تُروى عبر عقود من الزمن، حكاية صرح طبي نشأ من رحم الحاجة ليصبح ملاذاً للرعاية الصحية، وعنواناً للعطاء الذي لا يميز بين مريض وآخر . لم يكن اسم “الأشرفية” الذي ولد به عام 1954 مجرد عنوان، بل كان وعداً بالكرامة والعلو في خدمة الإنسان، ومع مرور السنين، تحول هذا المستشفى إلى أيقونة، ليصبح “البشير” في عام 1977.
كانت الرؤية الأساسية لمستشفى البشير منذ البداية هي توفير رعاية صحية عالية الجودة لكل مواطن، فكانت رحلة التطور هذه أشبه برحلة نمو شجرة قوية: مرحلة تلو الأخرى، توسع تدريجي، أُضيفت أقسام متخصصة، وتم تحديث المعدات الطبية باستمرار، وزادت القدرة الاستيعابية لاستقبال الأعداد المتزايدة من المرضى، لم يكن الأمر مجرد زيادة في الأرقام، بل كان نمواً نوعياً يهدف إلى مواكبة أحدث التطورات في عالم الطب ، ومع كل توسع، كان البشير يؤكد التزامه بتقديم الأفضل، ليتحول إلى ما يمكن وصفه بـ ” مدينة طبية ” متكاملة، تحتضن تخصصات دقيقة وعيادات ومراكز طبية. هذه المسيرة كانت مدفوعة برؤية ثابتة: أن يكون المستشفى ركيزة أساسية لا غنى عنها في نظام الرعاية الصحية الوطني.
ما يميز مستشفى البشير حقاً ويجعله فريداً في رسالته، هو عمقها الإنساني فهو الملجأ الأول للفقراء والمحتاجين في الأردن ، يجد الآلاف منهم في أروقته الأمل والعلاج، حيث تُقدم الخدمات الطبية بتكاليف رمزية.
لقد زرتُ مستشفى البشير مرتين مؤخراً، مرة كزائر لمريض ، ومرة أخرى كانت في ليلة قاسية، كنت فيها مريضاً أبحث عن ملاذ، وفي كلتا الزيارتين، رغم الظروف المختلفة، كان هناك شيء واحد يسطع بوضوح: روح العطاء والإنسانية التي تتدفق في كل ردهة ، في تلك الليلة الباردة التي حملتني كَمريض إلى طوارئ البشير، لم أجد مجرد مبنى ضخم يضم أسرّة، وجدتُ “جمل المحامل” الذي لا يشتكي ، وجدتُ أيادي مخلصة تعمل بصمت، وجنوداً مجهولين يقودهم أطباء نبلاء، رأيتُ في عيونهم الإرهاق، لكنني لمستُ فيها التصميم على إنقاذ الأرواح، لم يكن هناك صراخ أو أنين، بل حركة دائبة ومنظمة تسعى لتهدئة آلامنا وإعادة الأمل إلينا، في تلك اللحظات، بدا البشير كقلب نابض بالرحمة ، يستقبل يومياً سبعة آلاف مواطن ، ويستقبل إسعافه ما يقارب نصف مليون مريض سنوياً، وتجرى فيه الاف العمليات الجراحية سنوياً .
وعند زيارتي لأحد المرضى، تجولتُ في أروقة البشير، فوجدتُ ما هو أبعد من أرقام وإحصائيات،فهو ليس مجرد مستشفى يضم 1100 سرير ، بنسبة إشغال تصل إلى 80% وتتجاوز 110% في الخداج والعناية الحثيثة، إنه مكان تمتزج فيه الأفراح والأتراح، وتختلط دموع الحزن والفرح،هو المكان الذي تطلق فيه البالونات ابتهاجاً بمولود جديد، وتُحضر فيه الأكفان لوداع عزيز، كل هذا والبشير صابر على حمله الثقيل ، لأنه الملاذ الأول والأخير لكل فقير، أردني وغير أردني.
لا يمكن الحديث عن البشير دون الوقوف إجلالاً لكوادره الطبية والإدارية، إنهم بحق القلب النابض لهذا الصرح العظيم، والسبب الجوهري وراء استمراريته ونجاحه حيث يعمل الجميع بتفانٍ وإخلاص ، وغالباً تحت ضغط هائل، لضمان تقديم أفضل رعاية ممكنة. يُعرف الطاقم الطبي في البشير بصبره العميق وتفهمه الكبير لحالات المرضى،إنهم لا يقدمون العلاج فحسب، بل يقدمون الدعم العاطفي والتعاطف، مما يخلق بيئة من الثقة والراحة للمرضى وذويهم في أوقات شديدة الصعوبة، كثيراً ما يواجه هؤلاء الأبطال تحديات جمة، مثل نقص الموارد أو الضغط الهائل الناتج عن كثرة أعداد المرضى، لكنهم يستمرون في العطاء، مدفوعين بإيمان راسخ برسالتهم الإنسانية النبيلة،هذا التفاني يُلاحظ في أقسام الطوارئ، حيث تُعالج الحالات الحرجة على مدار الساعة، وفي أقسام العناية المركزة، حيث تُبذل قصارى الجهود لإنقاذ الأرواح، تفاني في جميع اقسام مستشفيات البشير.
شهادة بحق أطباء البشير وردت في موسوعة تاريخ الطب الحديث في الأردن للبروفيسور كامل العجلوني، حيث كتب يقول: ” إن الزخم الطبي والثروة التعليمية الهائلة في مستشفى البشير لا مثيل لها “، هذه الإمكانيات جعلت منه مستشفى تعليمياً منذ عام 1975، ليغذي القطاع الصحي بكفاءات طبية عظيمة.
وقد حظي هذا الصرح برعاية ملكية دائمة، تمثلت في زيارات مفاجئة لجلالة الملك عبد الله الثاني ، يؤكد فيها على ضرورة الارتقاء بمستوى الخدمات، ويشيد بجهود الكوادر ويعتز برسالتهم الإنسانية النبيلة.
من الظلم أن نغفل هذا الجانب المضيء ونركز على بعض الملاحظات السلبية النادرة، فمقابل كل حالة وفاة أو تقصير – وهذا قد يحدث في أفضل مستشفيات العالم – هناك مئات الآلاف من حالات الإنقاذ والإسعاف التي تستحق كل التقدير.
البشير، وكوادره العاملة بصمت في ظروف عمل استثنائية وشاقة جداً، يستحقون الاحترام والتقدير والثناء ، إنهم جنود مجهولون يجب أن تحظى بهم رعاية كل أجهزة الدولة، يستحق البشير معاملة خاصة ودعماً مالياً سخياً كسخاء عطائه ، لكي نوقف نزيف الخبرات الطبية منه نحو القطاع الخاص، ولكي نرى يوماً يتزاحم فيه الأطباء والممرضون على أبواب العمل في مستشفيات القطاع العام.
خاتمة الكلام ، أخشى ، أحياناً ، أن تصرخ مستشفيات البشير الخمسة يوماً ما مطالبة باستقلالها و بنظام إداري خاص لكوادرها وموازنة مستقلة عن وزارة الصحة، فهذا حقها وهو ليس سوى دليل على حجم العبء الذي يحمله وضرورة إيجاد حلول مبتكرة لدعمه، فليبارك الله مستشفى البشير ليستمر نبضاً للإنسانية في الأردن.

امين عام المجلس الصحي العالي

طباعة الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تنويه
• تتم مراجعة جميع التعليقات، وتنشر عند الموافقة عليها فقط.
• تحتفظ " فيلادلفيا نيوز" بحق حذف أي تعليق، ساعة تشاء، دون ذكر الأسباب.
• لن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة، أو خروجا عن الموضوع محل التعليق، او يشير ـ تصريحا أو تلويحا ـ إلى أسماء بعينها، او يتعرض لإثارة النعرات الطائفية أوالمذهبية او العرقية.
• التعليقات سفيرة مرسليها، وتعبر ـ ضرورة ـ عنهم وحدهم ليس غير، فكن خير مرسل، نكن خير ناشر.
HTML Snippets Powered By : XYZScripts.com