السبت , أكتوبر 11 2025 | 2:12 م
الرئيسية / stop / الخطاب السياسي في رواية “حكي القرايا” لرمضان الرواشدة

الخطاب السياسي في رواية “حكي القرايا” لرمضان الرواشدة

فيلادلفيا نيوز

د. عماد الضمور/ ناقد أردني

إنّ الخطاب السياسيّ ينجز مشروعيته من طبيعته التواصليّة، وقدرته على عكس طاقة المبدع الفكرية، إذ إنّ مرجعية هذا الخطاب تكشف عن قوته الدلاليّة، وعمق تأثيره في المتلقي، انطلاقًا من أن السياق اللغوي نسيج متماسك من العلاقات التي تجسّدها عملية التلقي.
المقاومة، والوحدة، والانتماء ثلاث دوائر تتداخل بقدر التحامها، وتلتحم بقدر تداخلها في رواية ” حكي القرايا” للروائي الأردني رمضان الرواشدة والصادرة حديثًا، حيث نبضت بفكر سياسي ناضج عكس أهمية وحدة الصف العربي، وبخاصة في هذه المرحلة المهة من حياة الأمة التي تشهد مخاطر كثيرة تحدق بها، وذلك من خلال إسقاطات سياسية، يمكن للمتلقي رصدها في الرواية. وهكذا لا تخلو أيّ رواية من فكر سياسي محرّك لها بوصفه قلبها الدافق بالحياة، كما لا تخلو من السرد بوصفه ناقلاً معرفيًّا أمينًا لأفكار الروائي، وصورة لتأملات المبدع وثقافته الراسخة.

في رواية ” حكي القرايا” حاول رمضان الرواشدة منذ البداية تخليص روايته من التاريخية والوثائقية ، وذلك من خلال تنويه وصفه الروائي بالضروري حيث يقول في مستهل روايته: ” هذه رواية لا تؤرّخ الأحداث، ولا تتناول التاريخ بصورة متسلسلة، لكن بعض أحداثها، تتقاطع مع المرويّ الشفويّ في الجنوب الأردنيّ، ومع بعض الوقائع التاريخية المجزوءة، ولا توجد علاقة من قريب أو بعيد لبعض الأسماء في تلك المنطقة، التي قد تتشابه مع ما جاء في الرواية، لذا اقتضى التنويه”. (الرواية ، ص5).

لقد أراد رمضان من خلال توظيف الرواية الشفوية ممزوجة مع بعض الوقائع التاريخية إنتاج خطاب سياسي بطريقة غير مباشرة، وبخاصة أن إطار روايته محدد زمنيًّا بمفتتح السرد عام 1834 وحملة إبراهيم باشا من مصر للسيطرة على بلاد الشام، وما عكسته الأحداث التاريخية من بلورة لمشروع وطني يقاوم السيطرة الخارجية، والاستقواء على إرادة الآخرين من خلال الثورات التي قامت في الشوبك والكرك والجنوب الأردني بشكل عام. أمّا نهاية الرواية فقد جعلها الراوي عام 1921م حيث قدوم الأمير عبدالله بن الحسين وتأسيسه إمارة شرقي الأردن، وقيام الدولة الأردنية.

تقوم الرواية على فكرة رئيسة هي ” حلف القرايا” وكلمة (حلف) ذات دلالة سياسية واضحة، عرفها العرب منذ العصر الجاهلي، وبقيت مألوفة عند السياسيين؛ لتدل على تقارب فكري، تحكمه مصالح متقاربة، ورغبة جامحة في تحقيق أهداف مشتركة، إذ يُشير رمضان الرواشدة إلى قيام ” حلف القرايا” بين القبائل الأردنية للوقوف في وجه الأخطار الخارجية التي تواجههم، وبخاصة في ظل ضعف الدولة العثمانية ، وانفلات سيطرتها على المناطق التي تحكمها، حيث يقول:” وفي غياب الدولة العثمانية؛ نتيجة عدم اهتمامها بالمنطقة، وانشغالها في مناطق بعيدة من الإمبراطورية الشاسعة للرجل المريض، وتدهور الأمن في كثير من مناطق الجنوب، انتشرت عمليات السلب والنهب، الأمر الذي دعا عدداً كبيراً من شيوخ القرى الجنوبية والبادية إلى تشكيل حلف دم بينهم؛ لمواجهة المجموعات التي تجوب منطقة الجنوب، تغزو وتفتك بالقرى والفلاحين، وتسرق مواشيهم ومحاصيلهم، أُطلق على هذا الحلف “حلف القرايا”( الرواية، ص15).
لعلّ هذا الحلف يعكس جانبًا مهمًا من الخطاب السياسي في الرواية، والتقاطة ذكية من الروائي ، الذي أراد طرح مشروع قومي عروبي في روايته؛ لمواجهة واقع الإحباط والتجزئة، إذ تتبدّى معالم هذا المشروع من خلال تخليده للأحلاف التي قامت بها القبائل الأردنية في مواجهة الأخطار الخارجية، وهي أحلاف منتجة لمعاني العزة والتضحية والفداء معمّقة لقيمة الثأر التراثية بمعانيها البطوليّة.

والثأر قيمة عربية أصيلة، جسّدها الروائي بوصفها بنية فكرية فاعلة في بناء النسيج الحكائي، وبخاصة أنّه من الموضوعات وثيقة الصلة بالرواية الشفوية، وذلك في ظل حالة الانهزام المعاصرة، وهذا يعني أن مفهوم الثأر ببعده القبلي تجاوز محدداته الاجتماعية إلى بناء فكري يعكس بعدًا سياسيًّا واضحًا.

إنّ إهمال الثأر يُلحق الضرر بالقبيلة كلها ، وبخاصة عندما يكون القتيل من شيوخها وأعيانها، وهذا واضح في الرواية في مشهد سردي عميق الدلالة بالغ الأثر بعدما تأكد مقتل الشيخ منصور الأعمى صاحب المكانة السياسية والاجتماعية الكبيرة في القبيلة بوصفه قاضيًّا عشائريًّا بامتياز، حيث يقول:” عاد الجميع بجثّة منصور الأعمى إلى “الجاية”، ومـدّدوه قرب مدخل منزله، في ما كانت فاطمة تنوح عليه وتندب، وترثيه بكلماتها التي ارتجلتها في وقتها طالبة بأخذ الثأر:

“من يوخذ إلنا الثّار يا خيّالة

ويقطع ظهور الزِّلم في القيّالة

من يوخذ إلنا الثّار يا صبيانِ

يستاهل زغرودة الضّحى من لساني”.

قال راشد: “لعينيكِ يا يمّه”.( الرواية، ص 45 ـ 46).

فالرواية ملحمة بطولة، وقَصَص من الفداء والنخوة العربية ،ووحدة الدم الأردني الفلسطيني، وبخاصة أن فلسطين حاضرة في مجمل إبداع رمضان الرواشدة الروائي، حيث جسّد ذلك في روايته الثالثة” النهر لن يفصلني عنك” الصادرة عام 2006م.

إذ رسّخ رمضان الرواشدة في روايته قيمة عربية تراثية أصيلة تعكس تماسكًا ووحدة في الموقف، وهي حماية الدخيل، ورفض تسليمه مهما كان الثمن، فقد شاءت الأقدار التجأ الثائر الفلسطيني قاسم الأحمد إلى عشائر الكرك ” كدخيل” طلبًا للحماية هربًا من بطش القائد المصري إبراهيم باشا ، حيث برز موقف علياء الضمور زوجة الشيخ إبراهيم الضمور في إكرام الضيف وحمايته، حتى جاءت لحظة إحراق ابنيها السيد وعلي من قبل الجيش المصري الغازي؛ لتجسّد وحدة الدم الأردني الفلسطيني، ومعاني التضحية والفداء التي جسّدها الأردنيون في سبيل حماية الدخيل، وصون وحدة الصف العربي، حيث رسم الروائي ملامح هذه العلاقة التاريخية في مشهد سردي متقن، وعاطفي مثير، حيث يقول:” قال الشيخ منصور الأعمى للشيوخ: “والله يا جماعة الخير يقولون إن علياء رفضت رفضاً باتاً”. وعندما هـدّدهم الضابط المصري بحرق ولديها علي والسيد أمامها وأمام زوجها وجميع الكركية، قالت علياء لزوجها: “المنية ولا الدنية.. كيف بدك نسلم الدخيل؟! وِش رَح يقولوا الناس عنّا، ورح نصير مضحكة للبنت وأمها”. كانت علياء صاحبة رأي سديد وشكيمة وأنفة واضحة” ( الرواية، ص 28).
الهاشميون مصدر وحدة، ومبعث استقرار وآمان لوحة مضيئة رسمتها رواية ” حكي القرايا” وبعثتها في خطاب فكري واضح يلامس وجدان المتلقي، ويرسّخ فيه الاعتزاز بالقيادة الهاشمية وما حققته من ولادة قوية لدولة أردنية ببعدها القومي الواضح؛ حيث تعكس الرواية إرهاصات الثورة العربية الكبرى، إذ ” كانت ثورات جنوب الأردن وبعض نواحي بلاد الشام قد تزايدت؛ نظراً للظلم الواقع على الأهالي من طريقة تعامل الأتراك، والجباية التي يأخذونها من محاصيلهم وأموالهم، والرجال الذين ذهبوا عنوة في حملات الدولة العثمانية التوسعية، ولم يعودوا قطّ، كما أنّهم اعتقدوا أنَّ القوة فقط، وليس السياسة، هي التي تمكّنهم من البقاء في هذه البلاد العربية”.( الرواية، ص65).

تمتلك الثورة العربية الكبرى وهجاً فكريّاً مضاعفاً مصدره نبلُ الخطاب الذي تحمله، ونضالُ قادتها من أجل الأمة العربية، فهي تحمل شرعية الرسالة، وعظمة الإنجاز.حيث شكلّت الأحلاف بين قبائل الأردن مرحلة تاريخية مهمة مهدت لانطلاق الثورة العربية الكبرى، فنجده يقول:” كانت تلك علامات صغرى قام بها الفلاحون والبدو، لعلامة كبرى سيظهر مجدها بعد سنوات، وتكون البداية الحقيقة لنهاية ظلم امتدّ لأكثر من خمسمئة عام، كانت تلك العلامة الرصاصة الأولى التي أطلقها الشريف الحسين بن علي من مكة؛ إيذاناً بالثورة على ظلم الدولة التركية، وانضمّ إليها كلّ أحرار بلاد الشام” ( الرواية، ص 69).
وهذا ما جعل من الثورة العربية الكبرى نهضة ثقافية شاملة ما زالت الأمة تحياها، ممّا يؤكد على إنجازاتها وسعيها إلى إقامة المشروع العربي الموحّد. حيث يصور هذا المشهد الثوري في أسلوب حماسي: ” تجهّزت عشائر الجنوب الأردني بكل ما لديها من إمكانيات لتضعها في خدمة الثورة، وعندما وصل الأمير عبد الله إلى محطة معان، كانوا جميعاً باستقباله وهم يردّدون أهزوجة الثورة التي ألّــفها المعانية ترحيباً بقدومه، ومنها:

“شدّ الحرايب يا الشريف

لا يرتخي مسمارها

وابوك قبلك ما يخاف

يفرح بشبّة نارها”.

ومنذ ذلك اليوم بدأت صفحة جديدة تُكتب في سفر التاريخ الحديث، عنوانها “الدولة” التي ستضمّ كل الناس تحت لوائها. ( الرواية ص 84 ـ 85).

نخلص من ذلك كلّه إلى أن المملكة الأردنية الهاشمية وريثة رسالة الثورة العربية الكبرى ومبادئها لذلك لا عجب أن يكون الأردن الأقرب للقضايا العربية، وأوجاع الأمة يحتضن أبنائها، ويمد العون للمحتاج، ويقف شامخاً لرفع المعاناة عنهم. هذه هي رسالة الثورة العربية الكبرى الماثلة في بنيان الدولة لأردنية.
فما أحوج الأمة في هذه الظروف إلى الوحدة والتماسك وجعل الترات ملهمًا للإبداع.

طباعة الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تنويه
• تتم مراجعة جميع التعليقات، وتنشر عند الموافقة عليها فقط.
• تحتفظ " فيلادلفيا نيوز" بحق حذف أي تعليق، ساعة تشاء، دون ذكر الأسباب.
• لن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة، أو خروجا عن الموضوع محل التعليق، او يشير ـ تصريحا أو تلويحا ـ إلى أسماء بعينها، او يتعرض لإثارة النعرات الطائفية أوالمذهبية او العرقية.
• التعليقات سفيرة مرسليها، وتعبر ـ ضرورة ـ عنهم وحدهم ليس غير، فكن خير مرسل، نكن خير ناشر.
HTML Snippets Powered By : XYZScripts.com