فيلادلفيا نيوز
في ظل التحديات المتسارعة التي تواجه التعليم العالي في الأردن، أصبح من الضروري إعادة النظر في الإطار الحاكم للجامعات، وتحريرها من القيود الإدارية والتشريعية التي تعيق قدرتها على التطور والاستجابة لمتطلبات العصر. فالحديث عن إصلاح التعليم العالي لم يعد رفاهية، بل بات ضرورة وطنية تستوجب قرارات جريئة تعيد للجامعات مكانتها العلمية والمجتمعية، وتحفزها على الابتكار والإنتاج المعرفي المستدام.
الخطوة الأولى في هذا المسار الإصلاحي تبدأ بالدعوة إلى استقلالية الجامعات الأردنية، استقلالاً إدارياً وأكاديمياً ومالياً، يضمن لها القدرة على اتخاذ قراراتها بحرية دون تدخل بيروقراطي مركزي يعطل ديناميكيتها. فجامعة لا تملك حرية تعيين قياداتها أو تطوير مناهجها أو إدارة مواردها، لا يمكنها أن تواكب التطورات العالمية أو تخلق بيئة تعليمية تنافسية.
ولضمان هذه الاستقلالية، فإن دمقرطة اختيار المجالس الحاكمية في الجامعات – من مجالس أمناء ورؤساء جامعات وعمداء – يجب أن تصبح أولوية. إذ لا يجوز أن تبقى هذه المواقع الحساسة رهناً للتعيين السياسي أو التوازنات الجغرافية والاجتماعية، بل ينبغي أن تكون نابعة من إرادة المجتمع الأكاديمي نفسه، وفق أسس من الكفاءة والنزاهة والرؤية الإصلاحية. ومن هنا، تصبح الانتخابات الحرة، والمساءلة، ومعايير التقييم الواضحة، أدوات رئيسة في ضمان حوكمة فعالة للجامعات.
ومن ناحية أخرى، فإن تحويل مجلس التعليم العالي إلى هيئة رقابية مستقلة، يركز على التدقيق في مدى التزام الجامعات بالرؤية الوطنية العامة، هو إجراء حتمي لإعادة التوازن بين الرقابة والاستقلال. فالمجلس يجب أن لا يكون سلطة تنفيذية تفرض القرارات من الأعلى، بل جهة متابعة تقيس مدى التزام الجامعات بمؤشرات الأداء، والمعايير الأكاديمية، وخطط التنمية الوطنية. بهذا الشكل، تتحول الجامعات إلى مؤسسات إنتاج معرفي حقيقية، لا مجرد مراكز تخريج شهادات.
وفي الإطار ذاته، فإن تفعيل قوانين الاستثمار بما يخدم الجامعات، يشكل رافعة اقتصادية مهمة. إذ يجب تمكين الجامعات من إنشاء صناديق استثمارية، وشراكات مع القطاع الخاص، واستغلال أصولها ومواردها بما يحقق الاستدامة المالية. ويجب إعادة النظر في التشريعات التي تعيق انفتاح الجامعات على مصادر التمويل غير التقليدية، وتحفزها على الابتكار المالي وتحقيق الاستقلال الاقتصادي.
كما ينبغي أن يُسمح للجامعات بالاستفادة الفعلية من قانون الرسوم الإضافية للجامعات الأردنية، من خلال آلية عادلة وشفافة لتوزيع هذه الموارد، تربط الإنفاق بمؤشرات الأداء والتميز، وليس بالاعتبارات الجغرافية أو الضغوط السياسية. فالموارد يجب أن تذهب لمن يستحقها، لا لمن يطالب بها.
وفي ظل هذا السياق، لم تعد هناك ضرورة لبقاء وزارة التعليم العالي بصيغتها الحالية. فالتجارب الدولية الناجحة تؤكد أن الإشراف على التعليم العالي يمكن أن يتم من خلال هيئات مستقلة، مرنة، غير بيروقراطية، تؤمن بالحوار والشراكة لا بالوصاية والتوجيه. إلغاء الوزارة – أو تحويلها إلى هيئة تنظيمية خفيفة الظل – سيساهم في تقليل المركزية، وتسريع الإصلاح، وتكريس ثقافة المساءلة الذاتية داخل الجامعات.
إن مستقبل الأردن التنموي مرهون بإصلاح منظومة التعليم العالي، ومن دون تمكين الجامعات، وتحريرها من القيود الإدارية والسياسية، لا يمكننا بناء اقتصاد معرفي حقيقي، أو تحقيق التنمية المستدامة. لذا، فإن دعوات الاستقلالية، ودمقرطة الحوكمة، وتفعيل الاستثمار، وإلغاء المركزية، لم تعد مجرد شعارات، بل خارطة طريق لا بد من السير عليها إن أردنا النهوض بهذا القطاع الحيوي.
