فيلادلفيا نيوز
د.نزار الحرباوي
كأي علاقة بين دولتين ، تأرجحت العلاقات ما بين الجمهورية التركية والمملكة الأردنية الهاشمية تاريخياً ما بين مد وجزر ، وشهدت حالات من القوة والتفاعل الإيجابي ، وحالات أخرى من التهميش والتناسي.
تركيا اليوم ليست تركيا الأمس، وأردن اليوم ليس أردن الأمس ، والواقع السياسي والاقتصادي والفكري في الإقليم المشرقي ليس كما كان في أي مرحلة من مراحل التاريخ الغابرة ، والقياس على التاريخ فيه قياس مع الفارق بلا أدنى شك.
في مفهوم الدبلوماسية العامة ،تنشط الدول في بناء علاقاتها مع الدول لأخرى بناء على شراكات مدروسة تحقق مصالحها في جوانب معينة، وبالتالي ، تتعدد العلاقات بين الدول من خلال سياسات الانفتاح الثقافي والمعرفي والسياسي والاقتصادي ، لتشكل هذه العوامل روافع العلاقات الشعبية والمؤسساتية.
المتابع لطبيعة وشكل العلاقات القائمة اليوم ما بين أنقرة وعمان ، يلمس فيها نوعا من الفتور القاتل ، فتور غير مبرر وغير مدروس وقع فيه الطرفان دون ريب ، وهما مسؤولان عنه وعن وتداعياته في حال استمراره ، لكونه يخالف المنطق السياسي ، ولا يعزز من قيمة ومكانة أي دولة من الدول المذكورة .
فبعيدا عن التصريحات الدبلوماسية المنمقة ، والزيارات البروتوكولية المفرغة من مضامينها ، وديباجة الخطاب السياسي العام والفضفاض ، كان على صناع القرار في كلا الدولتين أن يقوموا بتقييم جديد وجدي للواقع الحالي حتى يقوم كل طرف بدوره ومسؤوليته في تغير هذا الواقع المرذول في شكل وطبيعة العلاقة بين هاتين الدولتين الهامتين في الجغرافيا العربية والعالمية .
لقد طرحت تركيا مشروع السوق المشتركة مع سوريا ولبنان والأردن ، ولكن تغير الأوضاع في سوريا نسف هذه المبادرة الواعدة ، وسمعنا عن زيارات لمسؤولين بمستويات متعددة بين البلدين ، ولكننا نسمع جعجعة ولا نرى طحينا ، ولا يلمس المواطن أي أثر لهذه الجهود التي ينبغي لها أن تثمر بحكم الواقع المتغير وبحكم الملفات الإقليمية المتفجرة والتي تلزم الدولتين المسلمتين اللتان تجمعهما قواسم مشتركة كثيرة على العزف على غير هذا الوتر .
إن استجلاب التاريخ اليوم ، والحديث المعمق عن الحقبة العثمانية ، أو الادعاءات التي ثبت عقمها وغباؤها بنوايا الأتراك بالسيطرة على العالم العربي ونحوها لن يخدم الأردن أو من يفكر بشكل خاطئ بالتاريخ الماضي ، كما أن التفكير السلبي من جانب الأتراك بالتاريخ وعدم قدرتهم على بناء منظومة معرفية تأصلية مع العالم العربي بما فيه الأردن جعل نوايا تركيا غير مفهومة لدى كثير من صناع القرار العربي ، ناهيك عن عامل اللغة بالطبع .
وهنا ينبغي الحديث بكل صراحة عن الآفاق التي يمكن أن تدخلها الدولتان بشكل مشترك وبوعي حقيقي ، وهل هي ممكنة أم مستحيلة ، وكيف يمكن اختراق جدار الصمت في هذه العلاقة غير الناضجة بين بلدين تتفجر حدودهما بالازمات ، وهما مجبران على حماية ذاته ما من خلال بناء الذات والشراكات الفاعلة التي تسهم في صناعة إنجازات وطنية يفخر بها المراطن في كل بلد منهما.
إن تنقلي الدائم للمملكة الأردنية الهاشمية وسنوات الحياة التي قضيتها في الجمهورية التركية، وشبكة العلاقات والصداقات التي تجمعني بعدد كبير من الأكاديميين والإعلاميين والساسة ورؤساء المؤسسات الأهلية والتنموية في كل من الأردن وتركيا تحتم علي اليوم أن أخصص نافذة للحديث عن هذا الجانب المقفل من ملفات الحياة السياسية العامة والهامة ، فكل من التقيته في الدولتين يرحب وبشدة بكل أشكال التعاون والتشبيك والتفاعل مع الطرف الأخر ، ولديه من الفعاليات والبرامج والمشروعات ما يمكن أن يشكل منطلقا فعليا لبناء علاقات قوية وايجابية بين بلدين بينهما من القواسم المشتركة الشيء الكثير .
إن تفعيل جانب من الشراكة الاقتصادية بين تركيا والأردن يعني نهضة اقتصادية استثمارية تشمل الأردن برمته ، وهو أمر يحتاجه الأردن بشكل عاجل في ظل الأزمات الاقتصادية التي تعصف به ، كما أن تركيا بحاجة إلى شراكات اقتصادية تفاعلية يمكن لها أن تعزز من مكانتها واستثماراتها ، وتحريك عجلة الاقتصاد الخارجي فيها، فما هو المانع من بدء نمط غير بروتوكولي من العلاقات بين مجاميع رجال الأعمال الأتراك والأردنيين ? أم أن هذا معناه تحدده السياسة لا عالم الأعمال ?
إن الاقتصار على تفاهمات عامة ، وزيارات متعددة لشخصيات وزارية وحكومية وأهلية بين البلدين لا ولن تثمر ، وأن التأخير في بناء العلاقات بين تركيا والأردن سينعكس سلباً على البلدين في زمن لا يمكن فيه المجازفة والتعويل على القادم المجهول ، وأن من أبرز عوامل حسن الإدارة المعاصرة أن تمتلك أوراق القوة بين يديك لا أن تتوقع وصولها إليك على طبق من ذهب ، فزمن الأمنيات ، وفانوس علاء الدين السحري قد ولى بغير رجعة ، وبدأ عهد الوعي وبناء التحالفات النشطة المثمرة لحفظ الذات وتأمين الغد .
وفي ختام تدوينتي هذه ، أوجه كلمة للمسؤولين في كلا البلدين ، بضرورة إعادة هيكلة مجالس اتخاذ القرار المعنية بدراسة وتقييم العلاقه بين تركيا والأردن ، والبدء بعملية تقييم عقلانية جديدة وناضجة وعلمية ، يمكن لها أن تعيد القطار إلى سكته الصحيحة ، ويمكن لها في الوقت ذاته أن تصوب مسار الأحداث وتعفي كلا البلدبن من تبعات واقع ومستقبل لا يعلم طبيعته ومتطلباته ومستجداته إلا الله عز وجل .
